مقالات

مروان قبلان : “عقيدة” أوباما و”مبدأ” سلمان

خيراً فعل العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، بإلغاء سفره إلى الولايات المتحدة للقاء قمة ثنائي كان مقرراً أن يجمعه بالرئيس باراك أوباما، قبل قمة الخليج-أميركا في كامب ديفيد، فاللقاء كان سيستخدمه، على الأرجح، أوباما لتعزيز موقفه إزاء الكونغرس المعارض سياسته تجاه إيران.

نجح وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، في لقاء باريس الذي جمعه بوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في تضمين البيان الختامي المتوقع صدوره عن قمة كامب ديفيد “أن التوصل إلى اتفاق مع إيران حول برنامجها النووي مصلحة مشتركة لدول مجلس التعاون الخليجي وللولايات المتحدة”.
الآن، يأتي دور الرئيس أوباما لينهي إخراج المشهد بعد قمة كامب ديفيد، عبر مخاطبة الكونغرس بالقول: “هل تريدون أن تكونوا ملكيين أكثر من الملك”، يقصد بذلك الملك سلمان، الذي يوافق على الاتفاق مع إيران، وهو الأكثر المعنيين بذلك، لإحساسه بثقل جوارها عليه، وتهديداته لأمن بلاده.

واقع الأمر أن قمة كامب ديفيد، مهما غالت في تقديم الضمانات لدول الخليج العربية من مبيعات أسلحة إلى اتفاقات دفاعية، ما كانت لتنجح في الـتأثير على استراتيجية أوباما. على العكس، أعدت هذه القمة، أصلاً، لخدمة هذه الاستراتيجية، وجوهرها طي صفحة التدخل العسكري المباشر التي أصبحت سمة ملازمة للسياسة الأميركية بعد انتهاء الحرب الباردة، حيث بدأت بغزو بنما عام 1989 ثم حرب “تحرير الكويت” عام 1991 وتصاعدت في عهد إدارة الرئيس بوش الابن، لتشمل غزو أفغانستان والعراق، واستبدالها بمقاربة مختلفة، تقوم على “إدارة معارك الخصوم”، والإشراف عليها بدل المشاركة فيها، ويكون ذلك بإنشاء موازين قوى إقليمية في مناطق العالم المختلفة، حيث تتكفل القوى الإقليمية المتصارعة بموازنة بعضها، فيما يقتصر الدور الأميركي على إدارة هذه الموازين، من خلال الدعم المادي والاستخباراتي وتقديم الأسلحة والتدريب للقوات الحليفة. وقد بدأ تطبيق هذه الإستراتيجية في سورية، ثم جرى توسيعها لتشمل الإقليم بأكمله.

ففي سورية، تقود الولايات المتحدة حرب استنزاف ضد جميع من تصنفهم أنهم خصوم، عبر إنشاء ميزان قوى لا يسمح لطرف بالانتصار على الآخر، فهناك يجري استنزاف إيران وأدواتها وأذرعها، كما يجري استنزاف الجهاديين من مختلف التيارات والتنظيمات. أما إقليمياً، فمن خلال الانفتاح على إيران وإغلاق ملفها النووي، تحاول واشنطن دمج طهران في ميزان القوى الإقليمي، بدلاً من الاستمرار في عزلها عنه، فيتم احتواء النفوذ الإيراني الذي انفلت بعد إسقاط العراق، وشكل ما يشبه قوس النفوذ الممتد من العراق إلى سورية إلى لبنان، عبر إنشاء معسكر مقابل، يضم السعودية وتركيا من بين آخرين.

في أوروبا، نجحت الولايات المتحدة في استغلال ضم روسيا شبه جزيرة القرم، تعويضاً عن سقوط أوكرانيا، مرة أخرى، في أحضان الغرب، في إيقاظ مخاوف أوروبا التاريخية من السياسات الروسية، والقضاء، من ثم، على فرص التقارب الألماني-الروسي، والتي كانت قائمة على معادلة التكامل بين موسكو وبرلين، حيث تقدم روسيا طاقة رخيصة، ويدا عاملة ماهرة، لألمانيا، في مقابل تكنولوجيا متقدمة، واستثمارات ألمانية كبيرة في روسيا.

بسبب الأزمة الأوكرانية، ضاعت فرص التفاهم الاستراتيجي الروسي-الألماني الذي طالما أخاف واشنطن، حيث بدأت ألمانيا، ومن ورائها أوروبا، تسعى إلى إيجاد بدائل عن الطاقة الروسية، فيما راحت موسكو تسعى إلى إيجاد بدائل عن أسواق الطاقة الأوروبية. هنا، أيضاً، بدأ يتشكل ميزان قوى تتمكن به واشنطن من احتواء روسيا، وإنشاء حزام صد أوروبي، يمتد من أستونيا على بحر البلطيق حتى أذربيجان في عمق القوقاز. وفي الشرق الأقصى الذي تعطيه إدارة أوباما أولوية على غيره من مناطق العالم، نتيجة ضمه لأكبر اقتصادات العالم وقواه النووية الرئيسة (روسيا-الصين وعلى مقربة منها كوريا الشمالية، والهند وباكستان، اضافة الى اليابان وكوريا الجنوبية) فقد اعتمدت واشنطن سياسة ما يسمى التمحور حول آسيا.

ومنذ مجيء إدارة أوباما، بدأ التركيز على منطقة الباسفيك، انطلاقا من أن إدارة بوش الابن، وفي غمرة انشغالها بحروب “الإرهاب” الهامشية في العالمين العربي والإسلامي، تركت للصين التي تشكل خطراً استراتيجيا على المصالح الأميركية في الشرق الأقصى فرصة للصعود السريع. لكن واشنطن المتعبة من حروب استنزفتها في العالم الإسلامي لا تريد الانخراط في أي مواجهة جديدة مع خصم بحجم الصين. لذلك، لجأت إلى استغلال مخاوف دول المنطقة من الصعود الصيني، لإنشاء ميزان قوى هناك أيضا. وقد ساعدت بكين في تحقيق هذه الغاية، بدل أن تحول دون ذلك.

فتزايد الإنفاق العسكري الصيني بشكل غير مسبوق، في السنوات الثلاث الأخيرة، حيث تحولت الصين إلى ثاني أكبر إنفاق عسكري بعد الولايات المتحدة في العالم، فضلا عن فرضها منطقة عزل جوي، تمتد إلى 300 كم داخل مياه بحر الصين الجنوبي، يضاف إليها نزاعاتها الحدودية مع جيرانها. أدى ذلك كله إلى توتير العلاقات مع كل من اليابان والفلبين وفيتنام وكوريا الجنوبية وغيرها، فما كان من هذه الدول إلا أن بدأت تتكتل وتتقارب مع واشنطن، في محاولة لحماية نفسها من الصعود الصيني. وكما في أوروبا، حيث تتجه الأمور إلى احتواء روسيا، بدأت واشنطن تعمد إلى احتواء الصين في إقليمها، عبر إنشاء تحالفات بين القوى الصغيرة المتوجسة، وعبر حث اليابان على زيادة إنفاقها العسكري، ورفع وتيرة تصنيعها الحربي.

بهذا تكون إدارة أوباما في طريقها إلى العودة إلى الاستراتيجية التي حكمت السياسة الأميركية منذ مطلع القرن العشرين، حيث تجري إدارة الصراعات الإقليمية، بعيداً عن التدخل المباشر، إلا عندما تنشأ احتمالية خروج منتصر من بين الأطراف المتصارعة، فيجري التدخل عندها لقصمه.

هذا ما حصل في الحرب العالمية الأولى، عندما تدخلت واشنطن بعد ثلاث سنوات من اندلاع القتال على المسرح الأوروبي، لتفرض الاستسلام على ألمانيا، بعد أن جرى إنهاك روسيا، وهو ما حصل أيضاً في الحرب العالمية الثانية، حيث تدخلت أميركا في مسرح الحرب الأوروبي في العام الأخير فقط، عندما حصل إنزال النورماندي عام 1944، والذي على إثره جرى القضاء على ألمانيا، ولكن، بعد أن أنهكت القوى الأوروبية بعضها.

تحاول إدارة أوباما العودة الى هذه السياسة، وتسعى، في كامب ديفيد، إلى الحصول على موافقة العرب، ليكونوا جزءاً من ترتيبات إدارتها الصراع في منطقة الشرق الأوسط التي تتميز دوناً عن كل بقاع الدنيا بأن لها نكهة طائفية، حيث يصبح الميزان هنا سنياً-شيعياً، في حين تدخل كل موازين القوى الأخرى في العالم في إطار ترتيبات أمن اقليمي جماعي، عماده الدولة الوطنية.

كانت لدى الملك سلمان الشجاعة، ليرفض مساعي أوباما بهذا الخصوص، ويرفض أيضاً استخدام الخطاب الطائفي في معركة جوهرها سياسي مع إيران، ويتمسك بمبدئه الذي استدعى إعلانه عدم الثقة بالنيات الأميركية، والذهاب اتجاه الاعتماد على الذات في الدفاع عن المصالح العربية، وعدم التردد في استخدام كل الوسائل المتاحة لتحقيقها، بغض النظر عن مواقف الأميركيين وسياساتهم.

العربي الجديد _ وطن اف ام

زر الذهاب إلى الأعلى