كل الانقلابات التي شهدتها سوريا بدءًا بانقلاب حسني الزعيم في عام 1949 والتي سماها أصحابها «ثورات» قد شهدت إعدامات عشوائية وميدانية من دون أي محاكمات ولا أي محاكم، لكن إذا أردنا قول الحقيقة فإن حافظ الأسد هو مَنْ ضرب الرقم القياسي في هذه اللعبة الدموية حتى قبل أن يستولي على الحكم من رفاق الحزب ورفاق السلاح، عندما قام بانقلابه على قادة «البعث» خلال انعقاد المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي في عام 1970، حينما قام باغتيال مدير مكتب الأمن القومي عبد الكريم الجندي في عام 1968 وبالأسلوب نفسه الذي رتَّب فيه نجله بشار لاحقًا اغتيال غازي كنعان، ووفقًا للمسرحية نفسها، أي الادعاء أنه انْتحر بإطلاق 6 رصاصات على رأسه.
والأهم أنَّ عبد الكريم الجندي الذي، وفقًا للرواية التي فُرضت على الرأي العام وعلى وسائل الإعلام وعلى قيادة الحزب والدولة أيضًا، قد «اغتال نفسه» وبالطريقة إياها التي اتَّبعها غازي كنعان، كان أحد أعضاء اللجنة السرية العسكرية، التي كانت تشكلت، خلال نفْي عدد من الضباط السوريين للعيش في القاهرة في هيئة إقامة إجبارية عندما كانت هناك: «الجمهورية العربية المتحدة»، من خمسة ضباطٍ ثلاثة من الطائفة العلوية هم محمد عمران الذي كان أعلاهم رتبة، وصلاح جديد الذي كان أقواهم نفوذًا، ثم الطيار حافظ الأسد الذي كان أدناهم رتبة، واثنان من الطائفة الإسماعيلية الأول هو عبد الكريم الجندي هذا، والآخر هو أحمد المير الذي أصبح قائد جبهة الجولان خلال حرب عام 1967.
كانت هذه اللجنة، التي بقيت تزاول عملها في فترة الوحدة المصرية – السورية بطريقة في غاية التكتم والسرية، هي من رتَّبت انقلاب الثامن من مارس (آذار) 1963. الذي سُمِّيَ: «ثورة آذار» وانتزاع السلطة من حكم الانفصال الذي أطاح بـ«الجمهورية العربية المتحدة» وهنا فإنَّ ما تجدر الإشارة إليه هو أن محمد عمران هو من كشف سرَّ هذه اللجنة الخماسية الآنفة الذكر، عندما أحسَّ أنَّه أصبح مستهدفًا من قبل صلاح جديد وحافظ الأسد اللذين رتبا ومعهما عبد الكريم الجندي، الذي أصبح أحد نجوم المرحلة الجديدة، «حركة» أو «انقلاب» 23 فبراير (شباط) عام 1966 الذي أطاح بسلطة القيادة القومية الممثلة أساسًا بكل من ميشيل عَفْلق وصلاح البيطار ومنيف الرزاز، بالإضافة إلى الإطاحة بالرئيس أمين الحافظ الذي جاء في حقيقة الأمر من خارج هذه الدائرة.
المهم أنَّ حافظ الأسد ما لبث أن انقلب على حليفه وولي نعمته صلاح جديد، ولكن خطوة بعد خطوة وعلى مدى أربعة أعوام متتالية، وكان عليه وقد بدأ بهذا الانقلاب التدريجي أن يتخلص من عبد الكريم الجندي، وبطريقة مسرحية الاغتيالات نفسها التي اتبعها لاحقًا نجله بشار مع غازي كنعان، وذلك لأن الجندي بموقعه وبمكانته وبدوره المشهود في الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة كان يشكل عقبة فعلية أمامه والمعروف لدى الذين عاشوا تلك المرحلة الخطيرة أنه كان قد تخلص قبل ذلك من منافسٍ قوي هو سليم حاطوم، الذي كان فرَّ إلى الأردن بعد انقلاب فاشل، لكنه عاد إلى سوريا بعد هزيمة يونيو (حزيران) مباشرة فتم اعتقاله فورًا وأحيل على محكمة عسكرية برئاسة الأسد نفسه أصدرت عليه حكمًا بالإعدام في ساعة متأخرة من الليل، ومن دون لا سؤال ولا جواب. بعد انقلاب عام 1970 الذي قام به حافظ الأسد لم يبق منافسًا و«مزعجًا» له إلا الجنرال محمد عمران، الذي كان بعد «هروبه» من سوريا قد اختار مدينة طرابلس الشمالية اللبنانية ليقيم فيها، وليزاول عمله السري منها ضد عدوه اللدود فكان أن لحقه كاتم الصوت إلى هناك، وتم اغتياله بطريقة الأفلام البوليسية من قبل امرأة مستأجرة أرسلها مسؤول أحد التنظيمات الفلسطينية التابعة للمخابرات السورية.
ثم وبعد «تذويب» صلاح جديد في زنازين سجن المزة جاء دور صلاح البيطار، الذي تم اغتياله في باريس ثم محمد عيد عشاوي الذي تم «إغراقه» في نهر الفرات في دير الزور، وأيضًا ومن العرب هناك كمال جنبلاط والشيخ حسن خالد والشيخ صبحي صالح ونقيب الصحافة اللبنانية رياض طه والرئيس اللبناني رينيه معوض.. هذا في عهد الأب أما في عهد الابن، ومن شابه أباه فما ظلم، فهناك رفيق الحريري وجورج حاوي وجبران تويني وهناك غازي كنعان وآصف شوكت وداود راجحة وحسن تركماني وهشام بختيار ومحمد الشعار، وقبل ذلك محمود الزعبي ومجددًا رستم غزالة وعلي المملوك وجامع جامع ومحمد سلمان.
إن هذه ليست القطة الوحيدة التي أكلت أبناءها، فالمعروف أنَّ صدام حسين قد أعدم في وجبة واحدة 49 من قيادات حزب البعث العليا، وأنه تخلص حتى من ابن خاله عدنان خير الله طلفاح ومنْ عبد الخالق السامرائي ومن عبد الكريم الشيخلي ومن فاضل البراك ومن صالح مهدي عماش ومن حردان التكريتي ويقال: إنه تخلص أيضًا من أحمد حسن البكر نفسه.
حتى الثورة الشيوعية «البلشفية» لم تشذ عن هذه القاعدة فـ«قطة جوزيف ستالين» أكلت كل قادة الاتحاد السوفياتي الطلائعيين، ولحقت ليون تروتسكي إلى أميركا اللاتينية وحقيقة أن الثورة الخمينية لم تشذ عن هذه القاعدة وكذلك الثورة الكوبية.. وأيضًا.. أيضًا أم الثورات كلها الثورة الفرنسية.
إنَّ كل الذين عارضوا الخميني واختلفوا معه في مسألة ولاية الفقيه قد تم تغييبهم إمَّا بالإبعاد أو الإقامة الإجبارية وهذا ما حدث مع حسين علي منتظري الذي كان القائد الميداني الفعلي لثورة عام 1979 أو بالاغتيال وإلصاق التهمة بـ«أعداء الله» وهذا ما حدث مع بهشتي ومع كثيرين غيره ومن بينهم أول رئيس للجمهورية الإسلامية بعد هروب بني صدر ولجوئه إلى فرنسا.
وكذلك وبما أن اليمن بجنوبه وشماله يعيش الآن هذه الظروف الصعبة التي يعيشها، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن «القبائل الماركسية» قد تذابحت حتى أفْنت بعضها بعضًا فبداية أطاح قادة الجبهة القومية بكلٍّ من قحطان الشعبي وفيصل الشعبي ثم أخذ هؤلاء بعدما أصبحوا «ماركسيين» وتحولت الجبهة القومية إلى الحزب الاشتراكي (الماركسي – اللينيني) يتذابحون وكأنهم ليسوا رفاق حزب واحد ومسيرة واحدة وثورة واحدة وكانت البداية إعدام رئيس الدولة علي سالم ربيع، ثم بعد ذلك جاءت مذبحة المكتب السياسي التي راح فيها عبد الفتاح إسماعيل ومعه كبار القادة (الاشتراكيين) وهكذا إلى أن جاء دور الانهيار الكبير حيث سلَّم علي سالم البيض: «الجمل بما حمل» إلى علي عبد الله صالح الذي قاد البلاد والعباد إلى هذه النهاية المأساوية.
إن هذا يجب ألَّا يفهم على أنه تحامل على تجارب محددة من حركة التاريخ المعاصر والقديم، فالمقصود هو استعراض تجارب كانت بائسة بالفعل، وإلَّا ما معنى أنْ يضع حافظ الأسد كل قادة الحزب الذي كان يحكم باسمه في السجون والزنازين ولعشرات الأعوام، وما معنى أن يتخلص صدام حسين من رفاقه وجبة بعد وجبة، وما معنى أن يعطي علي ناصر محمد الأوامر لمرافقيه ليبيدوا أعضاء المكتب السياسي وعلى رأسهم عبد الفتاح إسماعيل بالرشاشات، بينما كانوا في انتظاره لعقد اجتماع وصف وقتها بأنه لو تم سيكون تاريخيا.
ما معنى ألَّا يبقى من الدائرة المحيطة بالرئيس بشار الأسد ولا واحد.. وآخرهم علي المملوك.. أين هو فاروق الشرع الذي من المفترض أنه نائب رئيس الجمهورية، وأين هو عبد الله الأحمر الذي من المفترض أنه الأمين العام القومي المساعد.. أين الذين كانوا حَوْل حافظ الأسد في المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي عام 1970.. عبد الحليم خدام ومصطفى طلاس.. ومحمد حيدر وحكمت الشهاب (رحمه الله).. أين رفاق المسيرة البائسة العسيرة ؟!
المصدر : الشرق الاوسط