قبل أن يهدأ غبار المعارك التي أحرزت فيها جماعات المعارضة المسلحة تقدماً في شمال سورية وجنوبها، ارتفعت أصوات تطالب بتسعير الحرب وبعدم تفويت فرصة تحقيق حسم عسكري سريع على نظام يتهالك ولا يحتاج سوى إلى ضربة كتف حتى ينهار! وتعلن تالياً رفضها الصريح والقاطع للسير في طريق الحل السياسي، متهمة أنصاره بأنهم انهزاميون يسعون، مهما تكن نياتهم صادقة، إلى إنقاذ النظام من مصيره المحتوم!
وهذا ما يفسر تمنع أطراف من المعارضة السياسية عن المشاركة في مشاورات جنيف التي دعا إليها ديمستورا، وارتفاع حرارة المطالبة باستجرار سلاح نوعي وفرض حظر جوي ومناطق آمنة، ثم التشجيع على توجيه المعركة صوب مدن الساحل السوري لإنزال ضربات قاصمة بالنفوذ السلطوي هناك، أو حض الفصائل العسكرية على توحيد صفوفها وتشكيل «جيوش فتح» في حلب ودمشق للاستيلاء على هاتين المدينتين، أسوة بما حصل في إدلب. فكأن هؤلاء قد وقعوا في الفخ ذاته الذي ميّز سلوك النظام على امتداد الصراع وإدمانه الخيار الحربي لتحقيق الغلبة، وكأنهم قد سحبوا أحاديثهم عن عجز السلاح في معالجة المحنة السورية، وعن دور الحل السياسي في الحفاظ على وحدة المجتمع والدولة، وأن الرهان على منطق العنف لن يفضي سوى لإطالة أمد الصراع واستجرار المزيد من التدخلات والمساندات الخارجية مكبداً السوريين المزيد من الدماء والدمار؟!.
ولا نعرف إذا كان هؤلاء يدركون قبل أن يروجوا للخيار العسكري، بأن من حق الناس عليهم، تقديم اعتذار عن تشجيعهم سابقاً لاندفاعات هجومية مسلحة في غير منطقة، سعرت العنف وخلفت خراباً وضحاياً ومهجرين من دون تحصيل نتائج سياسية تذكر، وتالياً عن أوهام دأبوا على إشاعتها حول سرعة تفكك السلطة وانهيار مؤسساتها، وعن مبالغاتهم في تقدير وزن المعارضة المسلحة وقدراتها، وعن تعويلهم على نصر عاجل بالحث على تحويل الجهود العسكرية إلى دمشق لإسقاط العاصمة، وعن عبارات يقينية بدت كرهانات مخفقة بحصول تدخل دولي وفرض حظر جوي ومناطق آمنة! واستدراكاً، ماذا يمكن أن نسمع من هؤلاء في حال لم ينجح خيارهم الحربي في تحقيق الحسم والغلبة؟! هل يقدمون اعتذاراً جديداً ويعترفون بأن رغباتهم وليس الوقائع هي التي قادتهم مرة أخرى نحو مواقف ورهانات خاطئة، وأن جيشان نفوسهم بتحقيق نصر سريع، أعمى أبصارهم عن رؤية تبعات ذلك على حياة البشر ومصائرهم؟!.
صحيح أن النظام يعاني اليوم إنهاكاً اقتصادياً وتشتتاً لقواه وقواته، لكن هؤلاء هم من كانوا يؤكدون بأنه ليس على استعداد للتخلي عن السلطة حتى لو تخلى عن أجزاء مهمة من الوطن، وبأن ثمة خطوطاً حمراً ترسمها المصالح الإقليمية والدولية لا يمكن للنظام أو للمعارضة تجاوزها، يؤكدها إقرار الجميع بأن الصراع السوري بات مسرحاً مفتوحاً للتدخلات الخارجية هي الأقدر على تمكين قواه الداخلية وتقرير مصيره.
ويزيد تراجع السياسة تراجعاً ما أثير عن اشتراط وضعته مؤخراً بعض الجماعات الاسلاموية فور تحقيق «انتصاراتها» بأن لا تمنح ثقتها لمعارضة سياسية إلا في حال أعادت النظر بهدف الدولة المدنية واعترفت بحاكميه الشريعة الإسلامية، ولا تضعف من خطورة هذا الاشتراط بل تعززها محاولة لملمته بسرعة وإقناع أصحابه بأن الوقت مبكر لطرح هذه الأفكار، وأن ثمة حاجة لا تزال قائمة لإظهار الجماعات المسلحة كإطراف معتدلة كي تتمكن من استمالة الغرب وطمأنة قطاع واسع من السوريين يرفض الدولة الدينية، كضرورة لا غنى عنها لإلحاق الهزيمة التامة بالنظام!.
يجوز تفسير هذا الاشتراط كتحصيل حاصل للوزن الجديد الذي باتت تحرزه الجماعات الاسلاموية على الأرض ربطاً بواقع ضعيف ومتهالك للمعارضة السياسية، أو كمحاولة خبيثة من جهات إقليمية دأبت على إلباس الثورة السورية لبوس التدين والإسلام خوفاً على مصالحها واستقرار سلطانها من تقدم التيارات المدنية والديموقراطية، مثلما يجوز لآخرين استثمار هذا الاشتراط لتأكيد ما كانوا يثيرونه بأن لا أمان للتنظيمات الاسلاموية وبأنها تظهر غير ما تضمر وتتمسكن حتى تتمكن، وأن المثال السوري ليس بجديد، فقبله انقلبت هذه التنظيمات على الشعارات الديموقراطية والمدنية التي رفعتها في بلدانها وتبنت حين اشتد عودها أو وصلت إلى السلطة ما تمليه عليها أجندتها الإيديولوجية.
لكن الأخطر أن يتكاثر أنصار هذا الاشتراط والمروجون لمشروعية فرض الأجندة الإسلامية على البلاد مأخوذين بفكرة أن الإسلاميين هم الذين يقاتلون على الأرض وهم الذين يقدمون التضحيات وتالياً هم الأولى بوضع مشروعهم الديني موضع التنفيذ، ساخرين من الشعارات المدنية التي يرفعها السياسيون في المنافي، ومن حقوق أقليات وقفت على الحياد أو ساندت النظام، وعاتبين على الخائفين من استبدال أقلية ظالمة بأكثرية مظلومة، وعلى دعاة الحفاظ على التنوع والتعددية بأنهم يحاولون ذر الرماد في العيون لقطع الطريق على حق الغالبية الدينية في أن تحكم وتسوس!.
يخطئ ويدمر مشروع التغيير الديموقراطي من يريد احتكار التضحيات الشعبية وتوظيفها بما يخدم أجندته الخاصة، وهو يعرف أن الشهداء والمعذبين ليسوا ملكاً لأحد بل مواطنون سوريون يرجون بغالبيتهم العدالة والمساواة، وأيضاً من يسعى لجرف الصراع صوب أبعاد مذهبية مستهتراً بالشروخ العميقة والتشوهات البنيوية التي يحدثها، ثم من يعزز رهانه على الحرب ومنطق السلاح ويتوسل «الانتصارات الأخيرة» للتخلي عن أولوية مطلب وقف العنف بصفته عتبة الإقلاع نحو حل سياسي يلبي مطالب الناس ويضمن حقوقها.
صحيح أن الشعب السوري أثبت أنه شعب حي لم تتمكن كل أساليب التنكيل قهر روحه التواقة للحرية والكرامة، وأنه يزخر بطاقة لا تنضب للتضحية من أجل تحقيق حلمه النبيل، لكن حلمه لا يتحقق بالانتقال من استبداد إلى آخر بل بقطيعة تامة مع منظومة العنف والوصاية والفساد والتمييز.
الحياة _ وطن اف ام