في السنوات الماضية تقلبت العلاقات التركية السورية من الصداقة إلى العداء، واحتكت قواتهما المسلحة وطيرانهما العسكري في أكثر من اشتباك، بدون أن توجد رغبة حقيقية لإحدى الدولتين في الدخول في حرب حقيقية بينهما.
ورغم اضطرار تركيا الوقوف الحازم مع الشعب السوري ضد نظامه السياسي، بعد أن هجّر بشار الأسد أكثر من مليوني سوري إلى تركيا، خلال السنوات الأربع الماضية، ورغم رفض السياسة التركية استخدم بشار الأسد الحل الأمني والعسكري والقمع والقتل لإحباط الثورة السورية، إلا إن الدولة التركية رفضت التورط في الحرب مع سوريا، والمرة الوحيد التي قامت فيها تركيا بعمل عسكري في شمال سوريا، هو نقل رفات ضريح سليمان شاه جد الأسرة العثمانية من حلب إلى أشمه، وكان هذا العمل نوعاً من دفع الضرر عن تركـــيا، ورغبة من الحكــــومة التركية ومجلس الأمن القومي والجيش التركي منع كل أسباب تورط تركيا في حــرب داخل سوريا، وبالأخص في المرحلة الأخيرة بعد دخول تنظيم «الدولة الاسلامية» (داعش) إلى سوريا وشمالها والحدود التركية السورية على وجه التحديد.
لقد كان وجود «تنظيم الدولة الإسلامية» في الحدود الجنوبية لتركيا تحدياً كبيراً، بالأخص أنه أعلن نفسه دولة خلافة إسلامية في العراق وسوريا، وقامت أمريكا والدول الأوروبية وعدد من الدول العربية بإعلان تحالف دولي عسكري لمحاربتها، شاركت تركيا في هذا التحالف بدون موافقتها على المشاركة في عملياته العسكرية في سوريا والعراق إلا بعد الاتفاق على الخطة الاستراتيجية لهذا التحالف الدولي وعملياته العسكرية، وبالأخص في معالجة الوضع الإنساني والأمني والسياسي في سوريا، ووضع خطّة تنهي نظام الأسد الذي يعتبر في نظر السياسة التركية والكثير من دول العالم، السبب الأول والأكبر لوجود «تنظيم الدولة» وغيره من التنظيمات الارهابية. وقد وضعت تركيا ثلاثة شروط للمشاركة في العمليات العسكرية للتحالف الدولي، إلا أن أمريكا رفضت تلبية هذه الشروط، لأن أمريكا غير مستعجلة لمعالجة الأزمات الحالية في المنطقة، فضلاً عن معالجتها لأسبابها الحقيقية، فقد ثبت في السنوات الأربع الماضية أن الاستراتيجية الأمريكية ترفض إسقاط نظام الأسد في سوريا، وتعمل على مواصلة الأزمات في المنطقة، بالأخص في سوريا والعراق ولبنان، بل عملت على زيادتها بالتغطية على سلوك الدولة الإيرانية الطائفي في سوريا والعراق واليمن ولبنان والمنطقة كلها، لاعتبارات ترى أمريكا أنها تنسجم مع المصالح الأمريكية والاتفاق النووي مع إيران، الذي قد لا يرى النور طالما واصلت القيادة الإيرانية وضع حدود للخدع الأمريكية والأوروبية على مشروعها النووي وسلوكها التوسعي والاستنزافي في المنطقة.
لم تقف الجهود الأمريكية على توتير العلاقات في العالم الإسلامي منذ احتلالها لأفغانستان عام 2001، واحتلالها للعراق 2003، وصناعتها للتحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش عام 2014، وتوريطها لإيران في الهيمنة على اليمن بأيدي الحوثيين في انقلاب سبتمبر 2014، مما تسبب في الحرب اليمنية و»عاصفة الحزم»، ما أكد أن الخطط الأمريكية ترمي إلى زيادة حالة التوتر في المنطقة، ليس في سياسية الفوضى الخلاقة كما كانت السياسة الأمريكية السابقة، وإنما في الحروب غير الخلاقة، ولذلك سعت الجهود الأمريكية لإشعال حروب ومعارك غير قابلة للحسم العسكري إطلاقاً، فالحرب التي تشعلها أمريكا عند أصدقائها تجعل أصدقاءها أكثر حاجة إليها، أما عند اعدائها فإنها تكتفي بحروب استنزاف طويلة الأمد لتفرض على عدوها الاستسلام، وإلا فضربة قاضية ساعة الحزم، وقد استعملت أمريكا هذه السياسة مع الدول العربية الصديقة ومع إيران منذ سنوات، ولكن لم تؤد حتى الآن إلى الاصطدام المباشر بينهما إلا عن طريق وسطاء، كما هو الحال في العراق وسوريا ولبنان واليمن، على أمل أن تؤدي هذه المعارك غير المباشرة إلى حرب مباشرة ولو بعد حين.
هذه الجهود الأمريكية لم تسلم منها تركيا، سواء اعتبرت تركيا دولة صديقة، أو معادية للسياسة الأمريكية في ظل حكومات حزب العدالة والتنمية، خاصة أن تركيا رفضت التورط في الحرب مع سوريا بذريعة حماية الشعب السوري من العنف والاضطهاد والقتل، وكذلك رفضت تركيا التورط في العمليات العسكرية ضد «داعش» إلا بشروطها الثلاثة، فكان لا بُدّ من جرها إلى حروب المنطقة بشتى الطرق والحيل والمكائد، ومنها تهديد أمنها القومي، جراء إشعال الحروب على حدودها، بما يؤدي إلى أخطار تطال الأراضي التركية، فجاءت الفكرة الأمريكية باستغلال الأطماع الكردية بإقامة كيان كردي شمال سوريا، هذا الكيان قابل لاستخدامه أداة أساسية في تقسيم سوريا سياسيا وعسكرياً أولاً، ومواصلة الحروب فيها بين دول وكيانات متحاربة ثانياً، وقابل ايضاً لاستغلاله في إثارة النعرات القومية لدى الأكراد في سوريا والعراق وتركيا وايران ثالثاً، فالورقة الكردية ورقة رابحة في نظر المخططين الأمريكيين لمواصلة استراتيجية الحرب المستدامة في منطقة الشرق الوسط والبعيدة عن الدولة الإسرائيلية.
ما يثبت هذه الخطط هي التحركات الكردية في شمال سوريا لحزب الاتحاد الديمقراطي، وقوات حماية الشعب الكردي، في احتلالها تل أبيض اولاً، وقيامها بعمليات التطهير العرقي وطردها لسكان ثلاثمئة قرية عربية وتركمانية من سكانها الأصليين ثانياً، فهذا جعل الشكوك والريبة تصبح حقيقة في قلوب الساسة والعسكريين الأتراك، بأن هناك مخاطر حقيقية على الدولة التركية تأتي من التحركات الكردية، باستغلالها لأوضاع سوريا الحالية، وعدم وجود سيطرة لحكومة الأسد تمنع ذلك، أو موافقته على استغلال الأكراد، أو تعاونهم مع الأمريكان في إقامة وجود كردي، بحجة التعاون لمحاربة «داعش»، وطرده من الأماكن التي احتلها في شمال سوريا، والأكراد والأمريكان يظنون أن تركيا سوف تخدع بهذه الحجج، وإلا فإنها سوف تتههم بدعم «داعش» إذا وقفت في وجه التحركات الكردية، وعملت على منع تمدد القوات الكردية على الشريط الحدودي في كل الشمال السوري، لذلك وجهت تركيا التحذيرات للإدارة الأمريكية برفضها لأي عملية تغيير ديمغرافي شمال سوريا أولاً، ورفضها لأي تمدد كردي في شمال سوريا ثانيا، سواء أدى إلى وجود كردي علني أو اصبح واقعاً مفروضاً على السوريين، ووضعت تركيا الخطط العسكرية وأعدت نفسها لأي عمل عسكري يمنع أمريكا منح شمال سوريا وطناً قوميا للأكراد على طريقة وعد بلفور لليهود في فلسطين.
إن تركيا التي امتنعت عن التورط بالحرب الداخلية السورية، وامتنعت عن المشاركة في العمليات العسكرية للتحالف الدولي بمحاربة «داعش» بشروطها، لن تنتظر الموافقة الخارجية لحماية أمنها القومي ومصالحها، فتركيا ستتحرك للحيلولة دون فتح جبهة جنوبية مع جيشها لسنوات، ولذلك تقوم الحكومة التركية الآن بالتواصل مع روسيا وأوروبا وإيران والدول العربية وأمريكا، بل حتى مع حكومة الأسد بشكل غير مباشر لشرح موقفها، فلا نية ولا رغبة ولا حاجة لتركيا لتورط جيشها في الصراع السوري أولاً، ولا الصراع الدولي ضد «داعش» إلا وفق شروطها، ولذلك فإن تركيا لن تتحرك في سوريا إلا لحماية أراضيها وشعبها وأمنها واستقرارها، وإذا أدخلت جيشها في سوريا فهو دخول مؤقت أولاً، ولهدف محدد ثانياً، وليس اعتداء على أحد ثالثاً، فهو ليس اعتداء على الأكراد ولا على العرب ولا غيرهم، لأن الهدف هو منع إقامة دولة كردية شمال سوريا تهدد الأمن القومي التركي، أما المدة فهي لحين تحقيق هذا الهدف، وأما حالة عدم الاعتداء فإن الضمانات التي تقدمها الأمم المتحدة أو المجتمع الدولي فسوف يسرع من الانسحاب التركي، الذي لن يتدخل في الشأن السوري الداخلي إطلاقاً، ولا يهدف إلى محاربة المواطنين الأكراد إطلاقاً.
أما إذا أخطأت الحكومة السورية والأسد حساباتهما وظنا أنهما بدعمهما للتهديد الذي يقوم به حزب الاتحاد الديمقراطي وقوات حماية الشعب، ينتقمان من المواقف التركية المؤيدة للثورة السورية، فهذا خيار ستكون له عواقبه، وبالأخص أن الشعب الكردي بأغلبيته ليس مع القيادات الكردية اليسارية وأحزابها المتصارعة، التي تخوض غمار أطماع شخصية وحزبية سوف تقتل أبناءهم وتدمر قراهم وتشتت مستقبلهم، فالحروب التي تخطط لها أمـريكا لا تخـــدم الشعب الكردي أولاً، ودعم الأسد لها هو لأغراض انتقامية فقط ثانياً، والإعلام الدولي المخادع سوف يوتر الشارع الكردي ويشحنه في العداء لتركيا، ليكون وقود حـــروب لا تنتــهي مع العرب والأتراك والأكراد ثالثاً، بل بين الأكراد ضد بعضهم بعضاً رابعاً، فدعم إقليم كردستان العراق سوف يكون إعلامياً فقط، بينما سيجد في المشروع السوري منافساً حقيقياً على قيادة الشعب الكردي.
المصدر : القدس العربي