انتظمت في برلين في العشرين من يونيو/حزيران الماضي، في حي كرويزبرغ تحديداً. كان التجمع، مظاهرة شارك فيها آلاف بدعوة من التجمع اليساري وبعض الأحزاب المعارضة، باتجاه بوابة براندنبورغ، رافعين شعارات داعمة للمهجرين، ولافتات تضامن مع اليونان في مفاوضاتها مع الجهات الدائنة التي كانت في مرحلة دقيقة وحرجة، تهدد بخروج اليونان من منطقة اليورو.
كانت الوجوه والملامح متنوعة، مثلما هو الحال في برلين، المدينة التي تمشي في شوارعها، فترى العالم كله فيها، ممثلاً بأفراد ينتمون إلى كل بقاع الأرض، والمدينة الحاضنة المانحة لفضاء كبير من الحرية، ويعيش فيها الناس، مواطنين ووافدين، بروح القانون، وليس بسطوته.
لحي كرويزنبرغ دلالته، فهو يساري، كان للمهاجرين الأتراك الفضل في إعماره بروح جديدة، هدمت الجدران الفاصلة بين الألماني والمهاجر، وكان العمال الأتراك قد ساهموا في بناء ألمانيا، ولم تكن القوانين تمنحهم حقوقاً تؤهلهم للعيش والانخراط في المجتمع، لكن تجربة هذا الحي أسست لثقافة بديلة، وبمساندة ومساهمة من مهاجرين آخرين ومواطنين ألمان. وواكبت هذه المظاهرات مظاهرات أخرى في غير عاصمة أو مدينة أوروبية، أو عالمية، فهو يوم مرصود للتضامن مع المهجرين، ومع المغلوبين على أمرهم في بقاع الأرض.
كانت سورية حاضرة بجروحها ومأساتها، في الكلمات التي تناوب على إلقائها أفراد مختلفون، وفي وجوه سوريين عديدين جاءوا ليشاركوا في المظاهرة، وليلامسوا عن قرب جراحهم، ويتلقوا جرعة من العلاج الداعم لأرواحهم النازفة، فهناك من يحرص عليهم، ويعترف بإنسانيتهم في بلاد غريبة، بينما لم يكونوا في موطنهم أكثر من أرقام في عداد الموت.
لكل سوري حكاية، ولكل واحد أزمة، ولكل منهم وطن طرده خلف حدوده، بعد أن صار لا يستطيع أن يقدم له إلا الموت. ولكل واحد مخاوفه الصغيرة والكبيرة، وأحلامه الصغيرة. معظم الذين التقيتهم دخلوا ألمانيا بعد رحلة موتٍ في قوارب المهربين، تجار الحروب والأزمات، بعضهم ينتظر مؤرقاً وهلعاً من الغد، بعد أن أمسكوا به في أحد البلدان التي مر بها في رحلة تهريبه، واضطر إلى ترك بصمته هناك، ينتظر قراراً بإعادته إلى البلد الذي بصم فيه، وتلك قد تخرجه خارج حدودها، ليرى نفسه مخلوعاً من الأمكنة، فاقداً للانتماء معلقاً في فضاء من الملاحقة والطرد وفقدان الأمان.
لكن، ما يفوق السوريالية في غرابته الطريقة الأكثر شيوعاً بين السوريين، للوصول إلى دروب الموت (غير الشرعي) في بحار العالم وبراريه، إنها مجموعة “كراجات المشنططين”. هذه الصفحة الافتراضية “فيسبوك” تقدم واقعاً وهمياً، لكنه يمتلك حضوراً كثيفاً آسراً راسخاً مؤثراً، فاعلاً أكثر من أي واقع، إنها سوريالية الأقدار، ولهاث الحياة خلف نفسها هروباً من الموت. هي صفحة أنشأها سوريون، تجمعهم المصائب والفواجع، ويجمعهم طلب العيش بعيداً عن السياسة والمعارك والحروب، سوريون لا يريدون الموت، يريدون أن يفوزوا بحياة آمنة، حتى لو كان بحدها الأدنى. تشترط “أدمن” الصفحة أن لا يتحدث أحد في متنها بالسياسة، فهي مشغولة بهمّ أكبر وأسمى، همّ الحياة التي يستحقها السوري. الصفحة يتداول فيها المساهمون في قضايا الخروج في دروب طلب اللجوء، في بقاع الأرض كلها، لكن المكان الأكثر طلباً الدول الأوروبية.
إذن، هي “كراجات”، و”كراج” هو مركز الانطلاق والسفر، حلم كل سوري لم يؤخذ رأيه في الحرب، ولم يسأله أحد إن كان يهوى الموت في وقت يتبارى فيه المتصارعون في الإعلاء من شأن الموت، حدّ مرتبة الشهادة باسم الوطن وباسم الله. و”المشنططون” جمع “مشنطط”، وهذه كلمة شائعة في اللغة الدارجة السورية، تستخدم بشكل كثيف في الأحاديث اليومية، والمشنطط هو الشخص الموزع بين الأمكنة ولا مكان لديه، الهائم الذي لا يعرف الاستقرار، لأنه مبعثر مع همومه وأعبائه. والكلام لا يخلو من دلالة التنقل والسفر، فالكلمة مشتقة من الشنطة، وهي الحقيبة، فهذا السوري يعيش في حقيبة هائماً على الطرقات. وصورة الغلاف لهذه الصفحة رسم كاريكاتوري لشخص بائس يحمل حقيبة ويمشي، يا للهول، يمشي فوق جواز سفر يحمل “وشم” الجمهورية العربية السورية، بألوان ليلية كئيبة، وفي فضاء مبهم بلا حدود ولا أفق، وفي أسفل الصورة جملة من أغنية معروفة لمطرب سوري راحل: لوين الدرب مودّينا؟
تعمل هذه الصفحة الافتراضية دليلاً ومرشداً للسوريين، من لديه سؤال أو استفسار حول طرق التهريب ومشكلاتها وكلفتها ومصادفاتها وبدايتها والخطوات اللاحقة، أسئلة واستفسارات ونصائح وتحذيرات وعروض للمساعدة وعروض أخرى لتشكيل مجموعات، انطلاقا من هذه الصفحة، ليقوم أفرادها برحلتهم معاً. من ينطلق في الرحلة يبقى على تواصل مع الصفحة، كلما سنحت له الفرص في طريق رحلته المحفوفة بالمخاطر والمفاجآت، يطمئن الباقين على مجموعته، ويخبرهم في أي مرحلة من الهروب صاروا، ويخبرهم عن مفاجآت تعرّض إليها، وينصحهم بكيفية التصرف، فيما لو اعترضتهم. ومنهم من يمسكهم البوليس في مرحلة ما، ويعيده إلى حيث انطلق، ليعيد التجربة من جديد.
نجا كثيرون، ومات كثيرون غرقاً أو في الأدغال والدروب البرية بين الدول، وفي اجتياز الحدود من معابر برية غير رسمية، وهناك كثيرون ممن يعيشون توتر الترقب حول مصيرهم.
يدفع القتل الممنهج سورية التي كانت معبراً ومستقراً لطريق الحرير، وغيره من دروب الحضارة الإنسانية، أبناءها إلى البحث عن طرق بديلة، طرق الهجرة واللجوء، بصمة السوري الريادية على الحضارة الإنسانية، منذ أزمنة عريقة، تتحوّل إلى تهمة ودليل جرم يخاف منها ويداريها عن العيون، ولولا حاجته إلى أصابعه، لبترها كي يضمن تهريب هويته الدامغة من العيون المتربصة به، وبمأساته، ليضمن لنفسه وأطفاله عبوراً مضموناً إلى أوطان أكثر رحمة بهم.
الهوية السورية المتشكلة والناضجة عبر الزمن يزوّرها السوري فوق وثيقة سفر مزوّرة، ويمر فوق جوازه الممهور باسم وطنٍ، كان اسمه وحده يفتقر إلى مؤشر الهوية السورية المتعددة، وليست العربية فقط، فيجعله معبراً يمشي فوقه، ويتركه خلف ظهره رمزية للعبور فوق أسباب التشتت السوري، والمرحلة التي أوصلت البلاد إلى دمارها، حتى لو كانت الطرق محفوفة بالموت، فهناك أوطان ربما يدخلونها ويلاقون فيها من يطالب بحقوقهم، بعد أن جُردوا منها ومن كرامتهم في أوطانهم. ليس اليوم فقط بل منذ عقود، سوريون تعطيهم “كراجات المشنططين” خارطة الطريق بدافع وشعور وحيدين، وبلا ولاءات أو غايات أو تحزبات وعصبيات: اللحمة الوطنية السورية الافتراضية التي فاقت الواقعية، وتتلقفهم شعوب تصرخ في وجه حكوماتها: “أوقفوا قتل المهجرين”، “لا للحدود، أوقفوا عمليات الترحيل” و”المهاجرون مرحب بهم هنا”. وفي اليوم نفسه، تحتفل هذه الشعوب أيضاً بيوم الموسيقى.
المصدر : العربي الجديد