“حرب أهلية”، هذا أكثر -وأسهل- ما توصف به النزاعات التي تعصف بالمشرق في وسائل الإعلام ولدى السياسيين والباحثين، تاركة الانطباع بأن هناك “معارضة تضم متطرفين وتتصارع على السلطة مع الحكومة؛ وبالتالي كلا الطرفين يتساويان في السوء، أو في أحسن الأحوال: هناك حرب أهلية بين طرفين، وبالتالي فليحلوا مشاكلهم بعيدًا عنا”.
وبحضور الخطاب والممارسات الطائفية، سياسيًا واجتماعيًا؛ فإن أول ما يحضر عند ذكر “الحرب الأهلية” هو أنها “حرب طائفية” -وهو ما يتم توصيفه علانية كذلك في بعض الأحيان-، في سردية تصنف المجتمعات غير المتجانسة -كسوريا والعراق واليمن- إلى مجموعات عرقية وطائفية مصطفة سياسيًا بناء على طائفتها.
ومع صحة تصنيف معظم النزاعات على أنها حروب أهلية ، وفي جزء كبير نزاعات طائفية ؛ إلا أنها لم تكن دائمًا كذلك، بل سعت الدول لتحويلها من ثورات سلمية خرجت لحقوق ومطالب سياسية إلى هذا الشكل، كما أن التصنيف الطائفي للنزاع يغيّب أسبابه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبنيوية الأكثر تعقيدًا وتداخلًا، كما أنه يقترح حلولًا مستقبلية هوياتية مبنية على هذا التقسيم كذلك، ما قبل حديثة أو ما بعدها ، دون حل حقيقي للأسباب والإشكالات التي أدت إلى ذلك.
الصراعات شبه الطائفية: ما وراء الطائفة
لا يكفي وجود الطوائف في مجتمع ما ليعتبر طائفيًا، بل لا بد أن يكون هناك حالة من “الكراهية أو التوتر أو التهميش” فيما بينها لتتشكل حالة طائفية؛ إلا أن أساس المشكلة الطائفية ليس بالبعد الديني، وإنما هو “إخضاع الدين لمصالح السياسة الدنيا، من خلال حب البقاء المصلحة الذاتية والتطور على حساب الجماعات الأخرى”؛ إذ تصبح الطائفية هي التعبير السياسي عن المجتمع العصبوي الذي يعاني من نقص الاندماج الذاتي والانصهار حيث تعيش الجماعات المختلفة بجوار بعضها البعض، لكنها تظل ضعيفة التبادل والتواصل فيما بينها، مشكلة الطريقة الخاصة بـ”التواصل الصراعي”، الذي يفقد المجتمع الصعيد الموحد سياسيًا وأيدلويوجيًا واقتصاديًا، بل ولكل إجماع على أي مستوى من مستويات البنية الاجتماعية؛ أي إنها: تسييس الهويات الدينية.
عندما اندلعت الثورات كانت ذات أهداف وطنية، ومطالب اقتصادية وسياسية وحقوقية، رافعة شعارات باسم البلاد، لا باسم طائفة محددة، لكن الأنظمة المبنية على “الطائفية” -أشباه الدول كما سنرى في الفصل التالي- مع تصعيدها للعنف ورفضها للمظاهرات السلمية واعتقال الناشطين المدنيين أدى لظهور العسكرة، ومن ثم استخدام الطائفية من خلال عرض الثورات على أنها مؤامرات طائفية للحشد الشعبي والدولي ، وما رافق ذلك من مجازر طائفية وظهور للميليشيات المحلية، ومن ثم دخول محاور إقليمية تؤثر في الثوارت وتتأثر بها، تبني مشاريعها على أسس طائفية سياسية عقائدية، أدى ذلك لتحول الصراع إلى شكله الطائفي بالغالب مع وجود صراعات بأشكال أخرى مختلفة.
“شبه” الطائفية
نعم، تلعب الطائفية، محليًا وإقليميًا، دورًا أساسيًا في الصراعات، وقد تكون الحافز في كثير من الأحيان، لكن النظر من خلال عدسة الانقسام السني الشيعي فقط يحجب، بدل أن ينير، الوقائع المعقدة على الأرض؛ فهي بدورها تخفي وراءها التحديدات السياسية والاقتصادية الاجتماعية التي اجتاحت بالمنطقة، ناهيك عن التدخلات الأجنبية وآثارها .
ما وراء الطائفية
لا يتسع المقال هنا للحديث عن الأسباب غير الطائفية التي أدت لخروج الثورات السلمية، سواء كانت اقتصادية أم سياسية أم حقوقية، وهي ما يمكن اختصارها بشعار الثورة المصرية: عيش، حرية، عدالة اجتماعية؛ قبل أن يتم تحويلها، محليًا وإقليميًا، إلى ديناميات صراع، تشكل الطائفية أحد جوانبها، لكنها ليست الجانب الوحيد بحضور جوانب أخرى متغيرة بتغير الزمان والمكان والظروف، كما ببعض الشواهد التالية، التي نوردها لتوضيح الفكرة أكثر من عملية رصد أو مسح شاملة.
جوانب الصراع:
اقتصاديًا:
- مدينة حلب السورية المقسمة ما بين شرق وغرب، قسمت بناء على خطوط اقتصادية؛ إذ ظلت المناطق الغنية الغربية موالية للنظام، فيما كانت المناطق الشرقية محسوبة على الثورة.
- ظهور أمراء الحرب الذين يسعون للسيطرة على الطرق وحقول النفط والحواجز، بالإضافة للفصائل المتورطة بالسرقات والتهريب والاختطافات.
سياسيًا:
- مشاركة جنود الطريقة النقشبندية (الصوفية)، المقربة من عزت الدوري (البعثي العلماني)، والعشائر، ومسلحي الدولة الإسلامية في العراق والشام (متطرفي السنة)، لتحرير مدينة الموصل من الجيش العراقي، ذو السيطرة الشيعية بالغالب.
- التحالف ما بين مؤيدي الرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح (السنة بالغالب)، وحركة أنصار الله، المعروفة بالحوثيين (الشيعية الزيدية)
هوياتيًا:
وهي صراعات على خطوط هوياتية، ما قبل الدولة الحديثة، لكنها في سياقات غير طائفية:
- عشائريًا: في سوريا، انحازت عشائر الحدادين والعقيدات وبني خالد للثورة بسبب تهميشها من النظام، مقابل البقارة التي شهدت دعما منه فبقيت موالية ، أو الصراعات العشائرية التي يشهدها وسط اليمن مع الحوثيين والقاعدة، كما أن الصراعات والانتماءات داخل الطائفة العلوية -الحاكمة في سوريا- هي انتماءات عشائرية أكثر من كونها طائفية.
- عرقيًا: لعل أبرز وأوضح شاهد على البعد العرقي هو النضال الكردي سعيًا للوصول إلى دولة بين سوريا وتركيا والعراق، من خلال تحويل مناطق الحكم الذاتي التي يملكونها في سوريا، وكردستان العراق، ومناطقهم في تركيا .
الصراعات الطائفية الإقليمية: تداخل السياسي والديني
مع بداية الثورات، كان التصور الذي رافقها من الفاعلين الدوليين -كدول ومنظمات وحركات عابرة للحدود هو استثمارها ضمن صراعات المحاور الإقليمية (المقاومة والممانعة-محور الاعتدال)، وكان أبرز الفاعلين الذين أججّوا هذا التصور: السعودية من ناحية، والنظام السوري وإيران، الذين بدؤوا بوقت مبكر بالدعم العلني والدعاية المباشرة للجهاد المقدس لـ”حماية المراقد”.
إقليميًا، أدى ذلك لتحول الصراعات المحلية إلى صراع إقليمي بدأ ينزع نحو الطائفية؛ فبدأ تشكيل الفصائل والميليشيات الشيعية التي بدأت تتدفق إلى سوريا والعراق، وبالمقابل استثمار الصراع السوري من الفاعلين الجهاديين من خلال الدعوة للجهاد الأنظمة المستبدة أو الكافرة أو الطائفية، ولعل أبرز هؤلاء المستثمرين هو تنظيم القاعدة في العراق، الذي أصبح لاحقًا الدولة الإسلامية؛ لتشكله الأساسي على المواجهة الهوياتية والتصور الواضح لهذا الصراع العالمي العابر للحدود، الذي بدأ يتكلم منذ فترة مبكرة بهذه اللغة، وإرسال الجولاني والعدناني لتشكيل جبهة النصرة، قبل الخلاف والعداوة التي حصلت بينهما وإعلان بيعة الجولاني للبغدادي ، واستطاع البرهنة على أن الطائفية هي محدد أساسي بالصراع السوري الذي خرج من حدود السياسة إلى الهوية وأنماط التدين.
ومع غياب التصور الدولي للصراع، واستمرار هذا التأجيج واستثماره من كلا الطرفين للجهاد العابر للحدود: الجهاد السني، والجهاد الشيعي؛ تحولت الهوية من أداة سياسية للصراع إلى جزء من الصراع نفسه؛ مما يكشف سر انتشار تنظيم الدولة والميليشيات الشيعية، التي تعتبر السياسة جزءًا من الهوية، لا العكس.
ولعلّ أفضل صورة توضح السياسات الدولية في الشرق الأوسط هي حرب باردة تلعب فيها إيران والمملكة العربية السعودية أدوارًا رئيسة، في تسابق على الأنظمة السياسية الداخلية في الدول الضعيفة في المنطقة، قبل أن تدخل الحركات الجهادية العابرة للحدود -السنية والشيعية- وتستغل هذا الصراع لصالحها، خصوصًا أنها قائمة في تأسيسها على الهوية لا على السياسة.
وكما اتضح، فإن الطائفية هي دافع رئيس وأساسي في الصراعات، لكنه ليس الدافع الوحيد، بوجود عوامل ومتغيرات ظرفية تتغير زمانيًا ومكانيًا وتتفاعل فيما بينها؛ مما يدعو لإطلاق صفة “شبه طائفي” ليكون أكثر دقة.
المصدر : التقرير