يمكن القول إن “الفوضى المنضبطة” باتت استراتيجية أمريكية معتمدة في العالم العربي عقب ربيع عربي قصير، فمنذ فشل نظرية “الفوضى الخلاقة” التي حكمت الرؤية الأمريكية تجاه المنطقة إبان حقبة المحافظين الجدد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتي تستند في جوهرها إلى تفكيك بنى الدول المعادية للولايات المتحدة الموصوفة بالدول المارقة وإعادة تركيبها بإنتاج أنظمة ديمقراطية ليبرالية موالية، تحقق الاستقرار الضامن لحفظ المصالح الاقتصادية للإمبراطورية الأمريكية في عصر العولمة العسكرية.
دعمت الولايات المتحدة منذ تدخلها في المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الثانية على مدى عقود طويلة النظم الاستبدادية العربية تفضيلا للاستقرار على الديمقراطية، حيث أصبح الاستقرار استراتيجية أمريكية معتمدة كما حدد معالمها المنظر السياسي الأمريكي صموئيل هنتنغتون في كتابه الكلاسيكي الشهبر “النظام السياسي في مجتمعات متغيرة” الصادر عام 1968، والذي قرر فيه أهمية الاستقرار السياسي في دول العالم الثالث لتأمين المصالح الإمبريالية الأمريكية، بالاعتماد على الأنظمة الدكتاتورية التي تستند إلى قوة الجيش والأمن كركيزة أساسية في حفظ الاستقرار، وباعتبار الديموقراطية غير صالحة لشعوب المنطقة لأسباب ثقافية ودينية وتجلب معها عدم الاستقرار.
زعزعت ثورات الربيع العربي عقيدة الاستقرار الأمريكية وأضعفت ثقتها بالدكتاتوريات العربية ومؤسساتها العسكرية، حيث دخلت الولايات المتحدة حالة من الارتباك في التعامل مع التغيرات العميقة، وعقب أكثر من أربع سنوات على فعاليات الثورة باتت على قناعة بضرورة إدارة الفوضى، واكتشفت فائدتها الحيوية في ضبط المجال العام واستثماره اقتصاديا وسياسيا، فالأنظمة الدكتاتورية الضعيفة باتت على ذات القناعة الأمريكية التي ترى العدو في الداخل، ممثلا بحركات الإسلام السياسي والجهادي.
يستند الأساس التاريخي النظري لسيرورات الفوضى المنضبطة إلى نفس مرتكزات نظرية الفوضى الخلاقة، فهي تنهل من دروس الثورة الفرنسية باعتبارها مرجعا قابلا للدرس والمقارنة، فعلى الرغم من نبل المنطلقات النظرية للثورة الفرنسية وإيجابياتها إلا أنها ولدت آثارا جانبية ضارة تمثلت بسيطرة الرعاع من العامة التي حولت الأوضاع إلى فوضى عارمة تفتقر إلى التنظيم في ظل غياب مرجعيات فكرية وسياسية ساهمت في تآكل الثورة وكان من نتائجها عودة الملكية إلى فرنسا ونمو النزعة الشوفينية الفرنسية التي أرادت تصدير الفوضى الثورية إلى دول أوروبا دون الالتفات إلى الخصوصيات المكونة لهذه الدول.
عملت الولايات المتحدة الأمريكية تاريخيا على استثمار حالة الفوضى في عدة أماكن من العالم كما فعلت في إيران أيام حكم مصدق وقد نجحت حينها بإعادة الشاه إلى سدة الحكم الأمر، وعقب انهيار جدار برلين وسقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفييتي اعتمدت استراتيجية الفوضى البناءة في التعامل مع الجمهوريات المستقلة, وتعتبر رومانيا نموذجا مثاليا لتفجير الفوضى في بلدان أخرى، وبالرجوع إلى المظاهرات التي عمت جورجيا وأوكرانيا كان العنصر الحاسم في نجاح المظاهرات هو التهديد بالقوة من قبل الولايات المتحدة وذلك بعد تحول السياسة الخارجية الأمريكية من الاحتواء المزدوج أيام الحرب الباردة إلى إستراتيجية أمركة العالم بالقوة والعمل على تغيير الأنظمة عبر الفوضى الخلاقة، ويمكن اعتماد الاحتلال المباشر كما حدث في العراق 2003.
كان الرئيس جورج بوش الابن الأكثر تطرفا في فرض سياسات الأمركة من خلال إطلاق العنان للفوضى الخلاقة، وقد تأثر ببعدد من الكتابات التي تؤسس للفكر السياسي المنظم للفوضى الخلاقة واعترف بأن كتاب “قضية الديمقراطية” لناتان شارانسكي يمثل الخريطة الجينية لرئاسته، والذي يتلخص باعتبار الإسلام حركة إرهابية تهدد إسرائيل والعالم الغربي، لا بد من استئصاله باستخدام القوة، وتفكيك الأنظمة العربية الاستبدادية وإعادة تركيبها كدول ديمقراطية ليبرالية تابعة، كما تمثل كتابات اليوت كوهين أحد نظرية الفوضى الخلاقة وخصوصا كتابه “القيادة العليا: الجيش ورجال الدولة والزعامة في زمن الحرب” ويرى كوهين أن الحملة على الإرهاب هي الحرب العالمية الرابعة باعتبار أن الحرب الباردة هي الثالثة.
إذا كان جورج بوش الإبن قد تبنى نظرية الفوضى الخلاقة لخلق شرق أوسط جديد موال للولايات المتحدة، فإن باراك أوباما يسير على نهج الفوضى المنضبطة، وكلا الأطروحتين تستندان إلى الاعتقاد بأن الاستقرار في العالم العربي يمثل عائقا أساسيا أمام تقدم مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، ولذلك لا بد من اعتماد سلسلة من التدابير والإجراءات التي تضمن تحقيق السيطرة والهيمنة على العالم العربي الذي يمتاز بحسب النظريتان بأنه عالم عقائدي وغني بالنفط، الأمر الذي يشكل تهديدا مباشرا لمصالح الولايات المتحدة، وإذا كان أقطاب نظرية الفوضى الخلاقة ينادون باستخدام القوة العسكرية لتغيير الأنظمة كما حدث في أفغانستان والعراق, فإن أنصار الفوضى المنضبطة يطالبون بإغراق الأنظمة في سلسلة من الصراعات والنزاعات التي لا نهاية لها مع شعوبهم، ودفع الأنظمة الدكتاتورية إلى التسليم لمتطلبات الإمبراطورية، وتشترك نظريات الفوضى الخلاقة والمنضبطة الأمريكية باعتماد وتبني سياسة التهديد بالقوة التي تساهم في تفجير الأمن الداخلي للعالم العربي وتشجيع وتأجيج المشاعر الطائفية وتوظيفها في تخليق الفوضى كما هو حاصل في التعامل مع الوضع السوري والعراقي والليبي واليمني الحالي، وسوف تجري عملية تعميم الاستراتيجية على دول عربية أخرى وفي مقدمتها مصر.
لقد استقرت الإمبريالية الأميركية المرتبكة بعد فترة من التخبط والحيرة عقب زلزال الربيع العربي، على إدارة الفوضى المنضبطة وهي تعيد بناء قدراتها للإمساك بخيوط اللعبة السياسية الجديدة في المنطقة والتمكن من ضبطها والسيطرة عليها، إلا أن قدرتها على ذلك لا تزال موضع شك فهي لم تعد تسيطر على كافة الخيوط، الأمر الذي دفعها للتنتازل عن بعض خيوط اللعبة لإيران، لكن بعض خيوط اللعبة وقع تحت يد حركات جهادية مناهضة كتنظيم الدولة الإسلامية الذي يمتلك خبرة واسعة في “إدارة التوحش” والتعامل مع المناطق الجامحة والتي يعرفها المنظر الاستراتيجيى المعتمد لدى الدولة الإسلامية أبو بكر ناجي في كتابه الشهير “إدارة التوحش: أخطر مرحلة ستمر بها الأمة”؛ بأنها: “منطقة تخضع لقانون الغاب بصورته البدائية يتعطش أهلها الأخيار منهم، بل وعقلاء الأشرار، لمن يدير هذا التوحش، بل ويقبلون أن يدير هذا التوحش أي تنظيم، أخيارًا كانوا أم أشرارًا”.
المصدر : عربي 21