لا تأتي سياسة الدول الكبرى وليدة اللحظة وهي إن كانت تتأثر بطبيعة الحال بالظروف الموضوعية الإقليمية والدولية إلا أنّ جذورها راسخة في ثقافة الدولة وطبيعة النظام السياسي القائم فيها. هناك الكثير من الجهود الإقليمية والدولية التي تركّز الآن على روسيا في محاولة جديدة لدفعها لتغيير موقفها كما يقولون من الأزمة في سورية ولكي تفسح المجال لعملية انتقالية سلسة، وإلا فإن الأزمة قد تستمر وتقضي معها على ما تبقى من الدولة السورية والشعب السوري.
يعتقد هؤلاء أنّ هناك إمكانية لتغيير الموقف الروسي، ويرى بعض المسؤولين الدوليين بأنّ التواصل مع روسيا بحد ذاته أمر إيجابي وأنّ هناك تقدّم في هذا المجال لكنّه بطيء جداً، ومع ذلك فهذا الأمر لا يعدّ مشكلة طالما أن روسيا قبلت من حيث المبدأ السير في هذا الاتجاه، كما يقولون.
للأسف، الكلام في واد والعمل في واد آخر، والحديث عن إمكانيّة تحوّل في الموقف الروسي ضعيف جداً. روسيا منذ البداية لم تغيّر موقفها، صحيح أنّها حاولت أن توهمنا بأنّها مستعدّة لمساومة ما عندما شددت أكثر من مرّة على أنّها غير متمسكة بالأسد، لكنّ ذلك لا يعني حقيقة تغيّر موقفها الأساس من الأزمة السورية والمتمثل في دعم الديكتاتور حتى الرمق الأخير. هل يعدّ هذا الموقف استثناءً في السياسة الخارجية الروسية؟ بالطبع لا. هذا الموقف هو الموقف الأصيل للروس والمتكرر في كل النزاعات الاقليمية التي يكون لروسيا يد فيها، سواء في يوغوسلافيا السابقة أو العراق أو أفغانستان أو غيرها من البلدان.
المشترك في كل هذه النماذج من الحالات يكمن في أنّ الموقف الأمريكي هو العامل الحاسم. الروس لا يغيرون موقفهم إلا عندما يتغيّر الواقع تماماً، وهم لا يعاندون لمصلحة مع أي من هذه الأنظمة وإنما للظهور بموقف المتحدّي لأمريكا والغرب، وهو الموقف الذين يمنحهم “برستيجاً” ويضخّم من “حجمهم الحقيقي” على الساحة الدولية. من السذاجة والحمق والبلاهة بمكان الاعتقاد أن الاسد بقي إلى اليوم في موقعه بفضل الموقف الروسي والإيراني فقط. نعم، لهاتين الدولتين دور مؤثر وفعال في إمداده بشريان الحياة، لكن الموقف الحقيقي الذي ساعد على بقاء الأسد هو الموقف الأمريكي وليس موقف أية جهة أخرى.
الأزمة السورية كانت ولا زلت بالنسبة إلى إدارة أوباما بمثابة الجزرة التي تريد أن تظهر من خلالها للآخرين الذين تسعى إلى التقرب منهم أن أمريكا أقلعت عن الأسلوب القديم وأنّها لا تريد المشاكل مع روسيا أو إيران، بل الحوار والتفاهم والاعتراف بمصالحهما في المنطقة والانفتاح على التعاون معهما بدلاً من المواجهة. المشكلة كانت في كيفيّة تمرير هذا الأمر على حلفاء الولايات المتّحدة في المنطقة دون أن يظهر تواطؤ الإدارة الأمريكية مع روسيا وإيران.
لسوء الحظ، فإن الشعب السوري هو الذي يدفع أثمان ألاعيب كل هذه الدول، أمّا المثير للاشمئزاز في الموضوع أنّ واشنطن لم تكن بحاجة حقيقية إلى الاستخدام الحقيقي للقوة لاستبدال نظام الأسد، كان يكفي أن يكون هناك تهديد حقيقي وذو مصداقية باستخدام القوة (دون استخدامها حقيقية) حتى نحصل على النتيجة المرجوة كما حصل في عهد بوش الابن عندما اغتال ممثلو “محور الممانعة” رفيق الحريري، وكما حصل عندما شعر الأسد بخطورة التحرّك الأمريكي بعد استخدامه للكيماوي. كان هناك خيارات عديدة أيضاً لا تلزم الأمريكان بالتحرك ومنها خيار دعم ما سمّاهم أوباما (الفلاحين والمزارعين والأطباء) الذين يسيطرون اليوم على مناطق شاسعة من سورية دون منّة من أحد. كان هناك خيار منع الأسد من تلقي الدعم الإقليمي والدولي، كان هناك خيار رفع الفيتو عن دور الدول الإقليمية في دعم المعارضة بدلاً من تهديدها والضغط عليها.
كل الذرائع “الأوباميّة” التي تمّ تقديمها منذ بداية الثورة السورية وحتى اليوم لتبرير الموقف الأمريكي في سورية هي ذرائع واهية تدين إدارة أوباما. لازلت أذكر جيّداً عند استقبال الوفود الأمريكية في بداية الثورة السورية، كانت الذرائع حاضرة وجاهزة:
1) من غير الممكن تمرير الأسلحة إلى المعارضة لأنّه قد ينتهي بها الأمر في نهاية المطاف إلى الأيدي الخطأ، وقد تصل بعدها إلى الراديكاليين أو الإرهابيين. لكن وللمفارقة كانت واشنطن تغدق السلاح على حكومة المالكي وانتهى الأمر بأن تصل الأسلحة إلى الراديكاليين والإرهابيين دون المرور بالمعارضين وأن تشكّل الأسلحة الأمريكية الجزء الأكبر من ترسانة تنظيم “داعش” الذي فتك بالمعارضين الحقيقيين قبل غيرهم فيما بعد!
2) إدارة أوباما لا تريد فرض حظر جوي لأنّها غير مستعدة للالتزام العسكري والمالي المطلوب لتحقيق هذا الأمر نظراً للموارد البشرية والمالية الكبيرة التي يتطلبها. لكن وللمفارقة فإن إدارة أوباما اضطرت فيما بعد لتدخل في حرب مع “داعش” تكلّفها حوالي 9 مليون دولار يومياً، ومن المتوقع أن تزيد إلى 14 مليون دولار يومياً مع نهاية هذا العام، ناهيك عن اضطرارها لإعادة جنودها سواء عبر عمليات خاصة أو عبر قصف جوي أو عبر عمليات تدريب عسكرية.
لم يكن مطلوباً من إدارة أوباما أن تفعل الشيء الكثير، لكنّ الأخيرة فضّلت استخدام الملف السوري كطعم للقيام بتسويات ثنائية مع روسيا وإيران. لقد سُمح للأسد بالبقاء بل وتم تشجيعه على استخدام القنابل والبراميل المتفجرة والكيماوي والاستعانة بالميليشيات الشيعية والحرس الثوري الإيراني كي لا يتم عرقلة الانفتاح الأمريكي على إيران، ولكي تفهم إيران بأنّه لا مانع لدى أمريكا من تحقيق ما تريد وإن كان يتطلب هذا فناء الشعب السوري.
حتى عندما حاولت إدارة أوباما أن تظهر للعالم بأنّها تريد أن تفعل شيئاً، لم تكن حقيقة كذلك. كل ما كان يهمها استخدام الملف السوري مرة أخرى لخدمة أغراض التسويات والتفاهم مع الروس كما حصل في صفقة السلاح الكيماوي. لا شك أنّ هذه الصفقة أظهرت أنّ بإمكان روسيا وأمريكا التعاون وهذا ما كان يريده الجانب الأمريكي بالضبط. في المقابل ما كان يهم الروس هو التضحية بهذا السلاح في مقابل استمرار الأسد في منصبه وبالتالي استمرار اللعبة. لقد أفادت الصفقة الطرفين الروسي والأمريكي ولكنها جاءت مرة أخرى على حساب الشعب السوري، ولا يزال الأسد يقصف الناس بالأسلحة الكيماوية رغم قرار مجلس الأمن 2118 في الوقت الذي كانت واشنطن فيه تتحجّج سابقاً بعدم مقدرتها على فعل شيء بسبب الفيتو الروسي.
الأمر نفسه يتكرر الآن. في نهاية المطاف لن يكون الأسد على ما يبدو موجوداً لا في السلطة ولا في سورية، لكن هناك من يريد لأزلام الأسد ولعملائه ولأسياده أن يستمروا في التواجد في المؤسسات الرسمية تحت حجّة حماية ما تبقى من المؤسسات، فيما يريد آخرون أن يستنسخوا نموذج تشارك السلطة والمؤسسات والمناطق والأحياء والدولة برمتّها كما فعلوا في لبنان والعراق. الولايات المتّحدة ليس لديها أية مشكلة في قبول هذه المطالب الروسية والإيرانية، لكن على الجانب الآخر أن يتنبّه تماماً لما حصل ويحصل في هذين البلدين، وهو أمر كافٍ لفرض هذه الاقتراحات حقيقة، ناهيك عن عدم الرغبة في تكرار خطأ النموذج اليمني في تغيير الرؤوس فقط والابقاء على جسد النظام وجماعته وتحصينه.
إذا كان ولا بد من الإبقاء على ما تبقى مما يسمى “مؤسسات سورية” – لا أعتقد بوجودها-، فيجب التأكد من أن يتم تصفيتها بالكامل من أي وجود لنظام الأسد أو حلفائه، هذا هو الضامن الوحيد لاستعادة سورية كدولة وشعب.
المصدر : السورية نت