ما أشبه الليلة بالبارحة.
كنَّا نستغرب كيف قبِل أجدادنا بسذاجة وغباء وذل احتلال الصهاينة لفلسطين بدعم بريطاني وتواطؤ عالمي، وكنَّا نظن أنَّهم كانوا غاية في الجهل والسطحية والضعف. وكنَّا نشعر بالعار طوال الوقت؛ لأننا أحفاد من ساعدوا على إسقاط الخلافة العثمانية، ونشوء بلدان سايكس بيكو، ثم احتلال فلسطين!
لكننا اليوم أكثر سذاجة وغباء وذلًا وجهلًا وسطحية وضعفًا؛ ففي تلك الأيام لم يكن من السهل معرفة ما يجري في أقبية وسراديب مخابرات الدول العظمى واكتشاف مخططاتهم التقسيمية، فلم يكن العالم حينها قرية صغيرة، ولم يكن من السهل على العرب وقتها أن يروا الصورة الكاملة فيدركون أنَّهم كانوا مجرد أدوات في حرب بالوكالة عن الدول العظمى. تلك الحرب التي انتهت بانتصار تلك الدول على الخلافة العثمانية وإسقاطها، ومن ثم تقاسم البلاد العربية فيما بينهم.
بعدها أعطى البريطاني المجرم بلفور فلسطين لليهود. ثم بدأت مسرحية محاولات استعادة فلسطين التي انتهت بهزيمة تلو الأخرى على يد الصهاينة المدعومين من الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص والتي شارك طياروها بالزي الإسرائيلي وهم يقودون الطائرات التي جرى دهنها واستبدال علمها الإسرائيلي بالأمريكي .
وخضع العرب للأمر الواقع سنة بعد أخرى، حتى باتت القضية الفلسطينية هي قضية الفلسطينيين فقط؛ بل وانتهى الحال بالعرب أن باتت بعض حكوماتهم تشارك في حصار الفلسطينيين جنبًا إلى جنب مع الصهاينة!
في تلك الأيام الكالحة السواد لم يكن العرب يستطيعون الرؤية بشكل طبيعي؛ ولذا لم يستطيعوا التفريق بين العدو والصديق، بين الخطر الحقيقي والخطر المتوهم، بين الهدف التكتيكي والخطة الاستراتيجية.
لكن، ماذا عن عرب اليوم الذين يعيشون في عالم القرية الصغيرة، ويشاهدون العالم كله في غرف نومهم من خلال الريموت كونترول، والذين يمتلكون بين أيديهم هواتف ذكية تُقرِب البعيد وتجمع المتفرِق وتكشف المستور؟
ماذا عن عرب اليوم الذي يرون التاريخ يعيد نفسه أمام أنظارهم؟!
ها هم يرون احتلالًا صفويًا إيرانيًا لسوريا لا يختلف كثيرًا عن الاحتلال الصهيوني لفلسطين؟
أي عذر لهؤلاء العرب، وهم يرون إيران تفعل في سوريا ما فعلته إسرائيل في فلسطين؟
فهاهي خرائط التوطين الشيعي في سوريا، كما هي خرائط التوطين اليهودي في فلسطين.
وهاهي المجازر الإيرانية، كما هي المجازر الصهيونية.
وها هو التطهير الطائفي لإيران وميليشياتها للمناطق السنية المسلمة لتوطين الشيعة مكانهم يسير على قدم وساق في العراق وسوريا، كما هو التطهير الصهيوني العرقي والديني.
وها هو الغرب المجرم وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية يقوم بالدور ذاته الذي قام به سابقًا البريطانيون بمنع العرب والمسلمين من الدفاع عن أنفسهم ضد اليهود الغزاة الآتين من الخارج؛ حتى يتمكن الصهاينة من تثبيت أقدامهم وتغيير التركيبة السكانية، هاهي اليوم أمريكا والغرب من ورائها لا يسمحون للثوار السوريين بمضادات الطيران أو بدخول السلاح النوعي؛ كي تتمكن إيران وميليشياتها من تهجير السوريين وتغيير التركيبة السكانية وتوطين الشيعة مكانهم، حتى يصبح أمرًا واقعًا يقود لاحقًا إلى ماراثون مفاوضات جديدة، ينتهي بلا شيء.
وها هو الغرب المجرم وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية لا يهمهم مآسي أهل السنَّة ولا ضحاياهم الذين بلغوا مئات الألوف، كل ما يهمهم هو أن يحشد العرب قواهم كي يقوموا مرة أخرى بالحرب عنهم بالوكالة ضد داعش الحركة المتشددة الصغيرة، تاركين إيران وميليشياتها الإرهابية وبشار يسرحون ويمرحون في دماء أهل السنَّة والجماعة في سوريا والعراق.
على حكومات العرب أن لا تشرب من الكأس نفسه مرتين؛ لأن الشعوب لن تصمت هذه المرة، فلقد اكتفت وشبعت من هراء الإعلام الرسمي المتكلس وكلامه حول فلسطين والقضية الفلسطينية والمقاومة والمسجد الأقصى.. إلخ من الشعارات التي انكشفت وتحجرت.
الشعوب العربية غاضبة جدًا. وظهر رأس جبل الغضب الشعبي الكبير في الموجة الثورية الأولى من الربيع العربي.
الشعوب تنتظر من حكوماتها مواقف تثبت استقلالية قرارها وإرادتها وتضامنها مع الشعوب الشقيقة ضد طغاتها وجلاديها ممن جعلوا من بلدانهم عميلة للصهاينة أو الفرس ضد المسلمين والعرب.
لقد كشفت ثورة سوريا كل شيء، ورأت الشعوب العربية وعرفت من بكى ممن تباكى، وعرفت من الذين خضعوا لوجهة النظر الأمريكية فسمحوا لها أن تحدد لبلاد العرب من هو “العدو” ومن هو الصديق، من ينبغي مسالمته ومسامحته، ومن ينبغي حربه وتدميره.
إن من الخطأ الفادح قبول وجهة النظر الأمريكية بجعل داعش هي الخطر الوحيد قبل إسقاط نظام بشَّار وميليشيات إيران التي في سوريا.
على الدول العربية أن لا تقبل بالرواية الأمريكية؛ فالوقت يمر سريعًا، وإيران تعمل على تقسيم سوريا وتطهير مناطقها من سكّانها العرب السنَّة، وروسيا تشيع أنها قد ترسل قوات لحماية نظام بشَّار، وإن صدَّق العرب رواية أمريكا كما صدَّق أجدادهم رواية البريطانيين؛ فستكون سوريا المحتلة حقيقة واقعة، كما هي فلسطين المحتلة حقيقة واقعة.
المصدر : التقرير