واضح أن السلوك الروسي الذي سبق انعقاد المفاوضات الخاصة بالأزمة السورية عمل على نسف هذه المفاوضات قبل أن تبدأ، أو تفخيخها بغية تفجيرها في أية مرحلة بعد بدايتها، لكي تبقى في الإطار الذي حددته موسكو وطهران، ومعهما النظام السوري منذ فترة طويلة، وسقفه ما تسمى “حكومة وحدة وطنية” تحت مظلة نظام الأسد بعد تطعيمها بوجوه معارضة مقبولة من المحور الثلاثي.
والجديد، وربما المفاجئ لبعضهم، انضمام واشنطن المكشوف إلى هذه المقاربة، وفق ما عبرت عنه تصريحات لوزير الخارجية الأميركي، جون كيري، ما يضع المعارضة السورية، ومعها داعموها الإقليميون، أي السعودية وقطر وتركيا، في موقف مستجد، يتطلب إعادة رسم خياراتهم سياسياً وميدانياً.
والسلوك الروسي التخريبي، المسكوت عنه بداية أميركيا، قبل أن يتضح أنه يحظى بمباركة فعلية من إدارة الرئيس باراك أوباما، يقوم على عدة ركائز، أولها محاولة التدخل في تشكيلة وفد المعارضة المفاوض. وإذ تعطي موسكو لنفسها الحق بهذا التدخل، فإنها لا تمنح الحق نفسه للجهة المقابلة بشأن تشكيل وفد النظام، كما أنها تناقض دعاوى النظام التي كان يرددها في مفاوضات جنيف السابقة بأن وفد المعارضة ليس ذا صلة بالقوى الفاعلة على الأرض، وبالتالي، لا يستطيع تنفيذ القرارات التي يتم التوصل إليها، بينما الوفد يمثل اليوم القوى العسكرية والسياسية الرئيسية في البلاد.
ويتوازى ذلك مع تصعيد ميداني على الأرض، حيث تشن قوات النظام هجمات واسعة على عدة جبهات، مدعومة بشكل مكثف، ليس من الطيران الروسي وحسب، بل من خبراء وضباط روس يديرون المعارك مباشرةً، خصوصاً في ريف اللاذقية الشمالي، حيث تتقدم قوات النظام هناك بشكل منتظم، وسط انكماش تركي، بدأ منذ حادثة إسقاط الطائرة الروسية، حيث لم تقدم تركيا، حتى الآن، الدعم المتوقع منها في إطار معركة كسر العظم بينها وبين روسيا، لتمكين مقاتلي المعارضة، وكثير منهم من تركمان سورية، من الصمود في هذه المنطقة التي تعتبر حيوية لتركيا.
ولعل الجديد فيما سبق مسألتان: انتقال الموقف الأميركي من الميوعة والضبابية إلى التناغم المكشوف مع الخطط الروسية في سورية، وحتى ما بدا أنه نهوض في هذا الموقف، حين لوح نائب الرئيس، جو بايدن، في زيارته أخيراً أنقرة بتدخل عسكري في سورية في حال فشل المفاوضات أو عدم انعقادها، يبدو أنه نوع من المجاملة للموقف التركي، خصوصاً أن الحديث عن تدخل عسكري ضد “داعش” حصراً، وليس النظام السوري، ما يثير السؤال بشأن علاقة محاربة “داعش” بانعقاد مفاوضات جنيف أو عدم انعقادها.
المسألة الثانية وضوح أكثر في المخططات الخاصة بسورية المستقبلية، والدور الوظيفي لتنظيم داعش ليس في سورية وحسب، بل في عموم المنطقة. وفي سورية بالذات، من الواضح أن الضربات الروسية تركز، حتى الآن، على ضرب مواقع المعارضة السورية وليس “داعش”، والهدف تأمين حدود دولة “سورية المفيدة”، أو الدولة العلوية، والتي تمتد من السويداء جنوباً إلى اللاذقية شمالاً، بما يشمل مناطق من درعا وكل دمشق وريفها، حتى الحدود اللبنانية وحمص ومعظم حماه ومحافظتي طرطوس واللاذقية وأجزاء من حلب.
أما الدولة الأخرى التي تخطط لها روسيا، بتفاهم ضمني مع أميركا، فهي الدولة الكردية التي تضم معظم مناطق شمال سورية، ويأتي تعزيز الوجود الروسي في شرق البلاد، وفي مطار القامشلي الذي يجري توسيعه على غرار مطار حميميم في اللاذقية، بغرض دعم قيام الكيان الكردي الجديد.
وما يتبقى من مساحة البلاد، وهي مناطق داخلية، ليس فيها ثروات أو مقومات كثيرة للحياة، باستثناء بعض النفط، لأن بعضه الآخر هو في شمال شرق البلاد، أي تحت السيطره الكردية، هذه المناطق سيترك فيها تنظيم داعش، لأن وظيفته لم تنته بعد، وسيدفع، في وقت لاحق، لمهاجمة المناطق الكردية، بما في ذلك ربما إقليم كردستان في العراق، لكي يتوج انتصار الأكراد عليه بمعونة أميركية وروسية، بإعلان الدولة الكردية في العراق، والكيان الكردي التابع لها في سورية.
قد يكتب لهذه الخطط النجاح مرحلياً، لكنه محكوم عليها بالفشل على المدى الأبعد، وهو فشل يعني بقاء سورية، وعموم المنطقة، في حالة قتال وغليان، لأن الغالبية العربية السنية لن تقبل هذا الواقع، وستكون هناك حركات مقاومة متعددة الأشكال، حتى مع انحسار “داعش” الذي يُراد أن يدفع السنة ثمن القضاء عليه، كما دفعوا حتى الآن ثمن قيامه وتمدّده، فجرى هضم حقوقهم، ووصم مجمل نضالهم ومطالبهم بالإرهاب.
المصدر : العربي الجديد