بينما يتابع جيش الاحتلال الروسي سياسة الأرض المحروقة في عموم الأراضي السورية، تعزيزاً لمركز نظام الأسد المتهاوي، ويفرض على عشرات ألوف المدنيين النزوح عن منازلهم، والبحث عن ملجأ آمن خارج البلاد، تعيش أوروبا في هوس مواجهة ما تعتبره التهديد الأكبر لاستقرارها، وردع الأعداد المتزايدة من اللاجئين السوريين وغير السوريين عن مواصلة الطريق نحو القارة العجوز.
وفي هذا السياق، أعلنت المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، توبتها النصوح عن استقبال مزيد من اللاجئين، وألغت سياسة لم شمل العائلات، بينما هدّدت السويد بطرد عشرات الآلاف من طالبي اللجوء، من دون أن تحدد وجهة ترحيلهم. وفي السياق نفسه، تداعت الدول لجمع المساعدات للاجئين السوريين، وصرح مسؤول بريطاني رفيع المستوى أن تكاليف إدماج اللاجئ الواحد في أوروبا يساوي عشرين ضعف إدماجه في البلاد المجاورة لسورية.
لكن الملفت للنظر أن أحداً من هؤلاء السياسيين في أوروبا والعالم لم يظهر انشغالاً كبيرا بالأعمال الحربية الروسية التي أطلقت موجة اللجوء الجديدة أو بانتقادها. بالعكس، تفيض الصحافة الغربية بمقالات وآراء تعبر عن إعجابها بما يحققه الروس من “إنجازات”، ولا تخجل من ترداد أن موسكو حققت، في أربعة أشهر، ما لم يحققه الائتلاف الذي تقوده أميركا وتشارك فيه أكثر من 13 دولة خلال سنتين من بدء عملياتها.
وفي معظم ما يكتب وينشر، تكاد كلمة المعارضة، أو الثورة، تختفي تماما ليحل محلها مصطلح المتمردين، والذين أصبح يُنظر إليهم جميعاً، أو في الغالب، بوصفهم “مجاهدين” سلفيين. وفي موازاة ذلك، يزداد الهجوم على المملكة العربية السعودية، ودول الخليج عموماً، لأنها تدعم المتمردين، وتترسخ الصورة أو السردية التي أراد تعميمها النظام وحلفاؤه بأن السبب الرئيسي للحرب والصراع هو انتشار الوهابية والجهادية السلفية التي ترعاها السعودية وبلدان الخليج، والتي تنبع من شروط الحياة القروسطية التي فرضتها القبائل البدوية على المنطقة، ولا تزال تمول تعميمها وانتشارها. وفي المقابل، تنحسر بشكل كامل تقريباً الانتقادات للسياسة الإيرانية والمليشيات الطائفية المتعددة الجنسيات التي حشدتها طهران لدعم نظامٍ دموي فاسد، وأطلقتها في مواجهة الثورة السورية. وبدل أن تثير غارات الطيران الروسي القاتلة، والمجازر التي تتسبب فيها للمدنيين، احتجاج الرأي العام العالمي وغضبه، تحصد بالعكس الكثير من الإعجاب المبطن والمعلن، وتبدو موسكو، لأول مرة، وكأنها الرائد الفعلي، حتى لا نقول القائد، للغرب المتحضر والمدافع الشرس عن الحضارة الغربية المهددة.
في هذا السياق، يأتي الحماس الاستثنائي لما سمي بمحادثات ومفاوضات جنيف 3، وإصرار الأطراف الدولية على الحفاظ على أكذوبة المفاوضات، بأي وسيلة كانت، وحرص المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، لتمريرها على إرضاء الهيئة العليا للمعارضة، بتعليق المباحثات بدل الإعلان عن فشلها، أو إفشالها. فالمفاوضات ينبغي أن تستمر بأي ثمن من أجل تمرير حرب الإبادة المنظمة للفصائل المقاتلة التي فقدت فجأة صفة المعارضة المعتدلة، وتم ضمها إلى قائمة المتطرفين من “داعش” وجبهة النصرة، وتطمين الدول الخائفة من توسع دائرة اللجوء والعنف على مستقبلها. وفيه أيضاً ينبغي أن نفهم موجة الكرم الحاتمي التي حملت المجتمع الدولي والأوروبيين بشكل خاص على مواكبة مسار جنيف 3 بشق إنساني، هو نوع من إظهار حسن النيات، وتقديم جائزة ترضية قدرها المانحون بخمسة مليارات دولار أو أكثر قليلا لعام 2016، لكن أقل من ثلاثة مليارات للسنتين التاليتين.
من يتابع ما ينشر في مروحة واسعة من الصحافة الغربية يعتقد أن المشكلة التي تشغل بال العالم والمجتمع الدولي، اليوم، لم تعد ضحايا الحرب التي تشنها موسكو على السكان السوريين الآمنين للقضاء على المعارضة، ومن دون أي تفويض دولي، أو تبرير، مهما كان نوعه، ولا رفض نظام الأسد التحرك، ولو خطوة واحدة في اتجاه الشعب والمعارضة، للبحث عن حل سياسي، يوقف شلال الدماء المتدفق منذ سنوات خمس، ولا حتى مشكلة داعش وتفريخها في أكثر من بلد عربي وإسلامي، وإنما هي كسر صمود المعارضة السورية أمام إغراءات السلام الكاذب والتداول في كيفية التحايل عليها والإيقاع بها.
فبعد أن فشلت محاولة تشتيت المعارضة، وتلغيم وفد التفاوض إلى جنيف بشخصياتٍ موالية لموسكو، ولم تفلح تهديدات وزير الخارجية الأميركية جون كيري في دفع المعارضة إلى القبول بالحل الروسي، الذي هو كل ما تطمح إليه اليوم معظم الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة. اعتقدت مجموعة العمل من أجل سورية أن بعض الضمانات اللفظية لمعالجة الملف الإنساني كافية لتخدير المعارضة وجرّها إلى الدخول في مفاوضاتٍ لن يمر وقت طويل، قبل أن تجد نفسها مجبرةً فيها على التنازل والتفريط بحقوق الشعب، أو الانسحاب وفقدان الصدقية، بعد تورّطها في منح الشرعية لمسرحية مفاوضات التسوية الروسية الأميركية التي أعدت علناً لتعزيز نظام الأسد وإعادة تأهيله.
كما يتكشف كل يوم، راهنت الخطة الروسية الأميركية على أخذ المعارضة، كما نقول بالدارجة، “بالعبطة” من خلال الارتجال والتسرع في الإعداد للمؤتمر، والإبقاء على الغموض الكامل في كل مراحل الإعداد والتحضير، حتى يجد وفد المعارضة نفسه، من دون أن يشعر، متورطاً في مفاوضاتٍ ليس لديه أي فكرة عن مسارها وآلياتها وجدول أعمالها، بل حتى عن المشاركين فيها. لكن نجاح مؤتمر الرياض للمعارضة، وخروجه بهيئة موحدة، بعكس ما كان يتوقع لها، ثم صمود وفد الهيئة في جنيف، ورفضه التسليم بمفاوضاتٍ من دون معرفة الغاية منها، ومن دون رؤية للمستقبل ولا شروط، وتمسكه بحل المسألة الإنسانية، وعدم تردّده في اعتبارها المدخل لأي مفاوضات سياسية جدية، قد أحبط من دون أن يدري هذه الخطة، وأحرج الجميع.
ولم يعد هناك وسيلة لاستدراك الخطأ سوى بتعليق المفاوضات، بانتظار أن تتوصل الأطراف الدولية المعنية التي تسمي نفسها مجموعة العمل لأجل سورية، إلى طريقة للالتفاف على صمود المعارضة، وإعادتها إلى طاولة المفاوضات. وهذا ما يشكل محور اجتماع ميونيخ في 11 فبراير/شباط الجاري، الذي سيعقد بموازاة التصعيد العسكري الخطير من موسكو والنظام، بهدف محاصرة أحياء حلب المحرّرة وإغلاق الحدود السورية التركية، وقطع طرق الإمداد عن مقاتلي المعارضة.
ولأن سياسة التجويع والحصار وترويع المدنيين وتهجيرهم جزء من سياسة الأرض المحروقة التي يمارسها الثلاثي الروسي الإيراني الأسدي لإقناع السوريين والمقاتلين بأنه لا حل هناك سوى التسليم والاستسلام، فلن تكون هناك أي ضغوط حقيقية على موسكو، ولم تكن هناك في الحقيقة أية ضغوط سوى تصريحات جوفاء، لا ترقى حتى إلى مستوى الشجب أو الاحتجاج. في هذا السياق، وتحت القصف الأعمى والدمار الشامل، سوف تطرح الدول المعنية على المعارضة وقفاً لإطلاق النار، بدل البحث في الملف الإنساني، وبديلاً عنه.
ومثل هذا الطرح في هذه المرحلة من المفاوضات، وخارج إطار التفاهم على طبيعة الحل ومستقبل البلاد مسبقاً، سيكون خدعة تهدف منها الدول إلى حرمان المعارضة المقاتلة من الدعم العسكري، بينما يستمر النظام والروس والإيرانيون المشاركون في القتال مباشرةً، والذين يمتلكون عتاداً كبيراً جاهزاً، في الأعمال العسكرية، باسم القتال ضد داعش، كما يفعلون الآن تماماً. وستكون النتيجة شق المعارضة، وضرب الثقة بين المقاتلين والمعارضة السياسية.
الخدعة الكبيرة الأولى التي أراد بها الروس والأميركيون الإيقاع بالمعارضة كانت المفاوضات من دون شروط، أي الاعتراف بشرعية حرب الإبادة الجماعية، والتفاوض في ظلها، حتى تنتهي الأمور بالحسم العسكري، ولا تبقى هناك قيمة لا للتفاوض ولا للمعارضة. أما الخدعة الجديدة المقبلة فهي اللعب بورقة وقف شامل لإطلاق النار بين النظام وفصائل المعارضة المسلحة، مع استمرار الروس وحلفائهم في القتال باسم الحرب على المتطرفين، كما يحصل الآن تماما. ولن تستطيع المعارضة أن تحقق شيئاً بالاحتجاج، وستجد نفسها كالزوج المخدوع، بعد أن تكون قد فقدت قواتها ووزنها على الأرض، لا قيمة لرفضها أو قبولها.
وقف إطلاق النار مهم وضروري، ولا بد منه، كما كانت المفاوضات والعمل من أجل تسوية سياسية لوقف القتل والدمار. لكن، يتحقق بالفعل ولن يحترم من الطرف الآخر، ما لم يقم منذ البدء على التفاهم على شروط المرحلة التي تليه، والاتفاق النهائي على تشكيل الحكومة أو الهيئة الانتقالية وصلاحياتها. من دون ذلك، لن يكون وقف إطلاق النار سوى خدعة، يستعيد من خلالها النظام وحماته الروس والإيرانيون المبادرة السياسية، بعد أن استعادوا المبادرة العسكرية، من أجل تجريد المعارضة بشقيها من آخر أوراقها، وهو دعم قطاع واسع من الشعب السوري لهذه المعارضة، لما تمثله من موقف الصمود في وجه النظام الدموي، وما لا تزال تملكه من شرعية سياسية، في تجسيد ثورة الكرامة والحرية وإرادة الخلاص والتحرّر من حكم الطغيان ونظام الإرهاب.
المصدر : العربي الجديد