صارت أوروبا٬ من لندن وحتى أثينا٬ موضع التساؤل٬ حيث يلقى بعض الناس٬ وخصوصا اللاجئين من سوريا والعراق وأفغانستان٬ حتفهم محاولين الوصول إلى الاتحاد الأوروبي. ويقاتل كثير من المحافظين البريطانيين للخروج من كتلة الاتحاد. والآخرون٬ ومن بينهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين٬ يتآمرون لتقويض الاتحاد. بيد أن آخرين يشعرون بالضجر حياله.
وأصبح القرن الـ20 والضرورات الاستراتيجية وراء استمرار حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي بعيدة كل البعد عن جيل الألفية الحالي. تتعرض أكثر رموز التكامل الأوروبية اليورو الذي يربط 19 دولة من دول الاتحاد الأوروبي في اتحاد نقدي قوي٬ واتفاقيات شينغن التي تسمح للمواطنين بحرية الحركة ضمن 22 دولة من دول الاتحاد بلا حدود أو قيود لخطر الانهيار تحت ضغوط سياسات الاستقطاب٬ وتباين الأداء الاقتصاد٬ وتدفق أكثر من مليون من المهاجرين واللاجئين اليائسين خلال العام الماضي.
كما أن هناك أزمة هوية داخل الاتحاد الأوروبي. فأوروبا المسيحية٬ وهي الفكرة التي حولها فيكتور أوربان رئيس وزراء هنغاريا إلى نوع من الأصنام الخرافية٬ ليست في حقيقة الأمر مسيحية بالقدر الموصوف. فهناك اليوم نحو 6 في المائة من أهل أوروبا من المسلمين٬ وسوف ترتفع تلك النسبة إلى 8 في المائة بحلول عام 2030. وهناك أقلية صغيرة متطرفة قد اتخذت سبيلها عبر تركيا٬ وصولا إلى المناطق الخاضعة لسيطرة «داعش» في سوريا لتعود مرة أخرى كي تريق الدماء وتقتل في حوادث مجلة «تشارلي إيبدو»٬ وسوبر ماركت كوشير في باريس٬ والملاعب الرياضية وقاعات الموسيقى والمطاعم في العاصمة الفرنسية.
لقد انتشرت الانقسامات والغوغائية في كل مكان. وتزدهر الأحزاب اليمينية المتطرفة المعادية للأجانب على هوامش الحياة السياسية من السويد شمالا وحتى اليونان جنوبا. وفي محطات كولونيا واستوكهولم٬ في هاتين الدولتين اللتين استقبلتا أكبر عدد ممكن من اللاجئين البائسين٬ وقعت حادثتان من جانب طالبي اللجوء السياسي ضد النساء في ألمانيا٬ ومن قبل البلطجية الملثمين الموالين للنزعة القومية ضد أطفال اللاجئين في السويد٬ تلك التي تسلط الضوء على حجم التوترات الناشئة هناك.
صرح ماتيو رينزي رئيس الوزراء الإيطالي إلى زميلي جيم ياردلي مؤخرا قائلا: «هذه ليست أوروبا. إنها صارت كابوسا». وهذا الكابوس هو أحد نذر التفكك التي تلوح في الأفق٬ حيث العنف والجدران لشعب من نصف مليار نسمة يتحرك بحرية وانطلاق ما بين وارسو ولشبونة. يمكننا من دون شك تجنب ذلك. إن أوروبا اليوم ليست هي أوروبا في عام 1930.
وفي برلين٬ تقف أنجيلا ميركل بقامة سامقة٬ وهي الزعيمة الأوروبية ذات المكانة الهائلة. ومع ذلك٬ فإن ضغوط التفكك رهيبة. في بعض الأحيان٬ كما لاحظ ييتس «أن الصقر لا يمكنه الاستماع إلى صياده». إننا نعيش في عصر الانهيار. ولقد انتهت فترة ما بعد الحروب. كما انقضت فترة ما بعد الحرب الباردة. ولقد انسحبت الولايات المتحدة الأميركية٬ في عهد الرئيس باراك أوباما٬ وبكل هدوء من أوروبا. وما من مكان يمكن لأحدنا أن يلمح فيه واشنطن على خريطة أزمة اللاجئين٬ فلقد صارت القوة الغائبة٬ تماما كما كانت كذلك في أثناء عملية مينسك حول الأزمة الأوكرانية. يكون العالم أكثر خطورة في حالة الفراغ السلطوي الحالية.
والانقسامات الجيوسياسية في مختلف أنحاء العالم هي الأكثر وضوحا الآن خلال جيل واحد على أدنى تقدير. مما يجعل كل قضية من القضايا المعاصرة أكثر استعصاء على الحل. ولقد أثبتت الأمم المتحدة فشلها الكامل في ما يتعلق بالأزمة السورية. فلقد استغرق الأمر خمسة أعوام كاملة٬ وربع مليون قتيل٬ وأكثر من 11 مليون لاجئ حتى يتخذ مجلس الأمن قرارا بشأن خريطة الطريق نحو التسوية السلمية هناك.
وتلك الخريطة٬ حتى الآن٬ ليست إلا خيالا محضا. ولسنوات كثيرة ماضية٬ لم يصنع أوباما شيئاُيذكر. والآن يتدفق اللاجئون عبر سوريا وغيرها من الأماكن الأخرى نحو أوروبا. وإذا ما رفع اللاجئون شعارا فوق رؤوسهم٬ فينبغي أن يكون «احصد ما زرعته أيها العالم البائس العقيم». كما أن هناك هجرة رقمية ذات أبعاد أسطورية تجري الآن٬ حيث يحمل كل لاجئ من اللاجئين هاتفا ذكيا ويعرف تماما وجهته القادمة. ومن أوروبا الحديثة إلى نيو هامبشاير الأميركية٬ تتصارع قوات مختلفة ولا يمكن التنبؤ بنتائج صراعها. فإذا ما أريتني دونالد ترامب٬ أو حتى نسخة محسنة ومتواضعة منه في ولاية آيوا٬ فسوف أريك مارين لو بان الفرنسية المتطرفة. والأمر المثير للعجب بحق هو أن أوروبا المنهكة والمضطربة قد تمكنت من إنقاذ الولايات المتحدة. وهذا شيء جديد للغاية.
فمن دون قرار ميركل الشجاع والجريء في استقبال 1.1 مليون لاجئ على أراضيها العام الماضي٬ ستكون أوروبا في مواجهة كارثة عارمة لا محالة والولايات المتحدة٬ حتى في عام الانتخابات الرئاسية الملتهب٬ لم تكن لتستطيع أن تغض الطرف عن الفوضى العنيفة بين جموع حلفائها حال إغلاق الحدود و«الجماهير المحتشدة التواقة إلى تنسم عبير الحرية» قد صارت هائمة على وجهها على غير هدى.
وصل 65 ألف مهاجر آخرين إلى ألمانيا في يناير (كانون الثاني) الماضي٬ مما يمهد الطريق لاستقبال نحو 780 ألف مهاجر جدد خلال هذا العام. وقرابة مائتي ألف طفل مسلم سوف يدخلون المدارس الألمانية قريبا. ولنتصور إذا كانت الولايات المتحدة٬ التي يبلغ تعداد سكانها أربع مرات تعداد ألمانيا٬ يتعين عليها تسجيل 800 ألف طفل مسلم في مدارسها خلال عدة شهور قليلة. وبعد تدبر عميق٬ لا تفكر حتى في المحاولة. لا يعرف أحد على وجه الدقة حدود القدرات الألمانية.
إلا أن هناك شيئا واحدا. سوف ينقلب الاتحاد الديمقراطي المسيحي بزعامة ميركل عليها إذا استمرت أعداد اللاجئين في التزايد. والدول الأوروبية الأخرى لن تستقبل حصصا أكبر من اللاجئين بحال٬ كما أن هناك دعما ديمقراطيا باهتا لما يجب فعله من الناحية الأخلاقية في تلك المسألة.
لذا٬ كان على ألمانيا أن تعقد صفقة مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان. ومن المحتمل أن تنص الصفقة على أن تتلقى تركيا مبالغ هائلة من الأموال وربما الإعفاء من تأشيرة الدخول التي ترغب تركيا بشدة في موافقة ألمانيا عليه في مقابل أن توقف تركيا وبصرامة من مستوى تدفقات اللاجئين وفقا لعدد متفق عليه لأناس لن يخاطروا بحياتهم في زوارق واهية لعبور الأبيض المتوسط. تحولت السياسة الخارجية التركية إلى السياسة الداخلية الألمانية. وأوروبا المضطربة٬ التي تخلت عنها الولايات المتحدة في الأزمة الأخيرة٬ تركض لاهثة نحو أنقرة لإنقاذ نفسها.
المصدر : الشرق الأوسط