قبل مغادرته منصبه على رأس الدبلوماسية الفرنسية لم يفوت لوران فابيوس الفرصة وقالها بالفم الملآن “لا أعتقد أن نهاية فترة ولاية باراك أوباما ستدفعه إلى التحرك بالقدر الذي يعلنه وزيره جون كيري”، وقال “هناك أقوال لكن الأفعال تختلف ومن الواضح أن الإيرانيين والروس يستشعرون ذلك، الغموض يساهم في تدهور الوضع”. واستنتج فابيوس “عندما نجمع وحشية الأسد وتواطؤ روسيا وإيران والغموض السياسي يكون الناتج المأساة التي تحدث في حلب”.
وعن جوار حلب بالذات الذي يعيش ما يشبه “يوم الحشر” مع سيل من عشرات الألوف من النازحين وتفاقم لمأساة التغريبة السورية، يتصاعد التوتر على جانبي الحدود السورية – التركية، ويترافق ذلك مع إعلان المملكة العربية السعودية استعدادها لدخول بري تحت عنوان الحرب ضد داعش في الأراضي السورية. إزاء ذلك حذر رئيس الوزراء الروسي ديمتري مدفيديف من خطر “حرب عالمية” في حال تدخل بري أجنبي في سوريا.
هكذا تشكل معركة حلب وجوارها منعطفا في مسار النزاع السوري. بعد الانتقادات الغربية الحادة للهجوم والقصف الروسي وإفشال جنيف3، انبرى وزير الخارجية الروسية سيرجي لافروف لطرح وقف لإطلاق النار في الأول من مارس القادم، وذلك لكي يضع اجتماع ميونيخ لمجموعة الدعم الدولي (11 فبراير) أمام الأمر الواقع ولكي يكون عنده ثلاثة أسابيع لتكبيد المعارضة السورية هزيمة عسكرية نكراء، مؤكدا السعي المحموم من قبل الحلف الروسي – الإيراني لحصار حلب أو إسقاطها، وكذلك إغلاق الحدود مع تركيا.
من الناحية النظرية تستنكر واشنطن هذا التأجيج الروسي للنزاع، لكن كلام فابيوس المعطوف على أقوال جون كيري خلال لقاء مع ناشطين سوريين على هامش مؤتمر المانحين في لندن، الأسبوع الماضي، يشيران إلى التقاطع النسبي بين الموقفين الأميركي والروسي في ما يخص تطويع المعارضة وتعويم النظام، أو إلى احتمال أن تكون قد انطلت على كيري الخدع السياسية والحربية لبوتين.
في مطلق الأحوال لا يمكن للمراقب والمتتبع إلا استنتاج تسليم واشنطن بالدور الريادي لموسكو وذلك منذ حقبة الصفقة حول السلاح الكيميائي في سبتمبر 2013، والذي تأكد أيضا من ردة الفعل الخجولة حيال التدخل العسكري الروسي الكثيف اعتبارا من صيف 2015، ومن أدلة “التواطؤ” أو “التخلي” إيقاف كل دعم عسكري لقوى المعارضة منذ أكتوبر 2015، ومنع القوى الإقليمية من تزويدها بسلاح نوعي تحت طائلة التهويل بردة فعل روسية جارفة، أو التهديد بوضع أسماء هذه الدول على اللائحة السوداء لداعمي الإرهاب.
على مدار السنوات الماضية أسقط النزاع السوري صدقية الولايات المتحدة الأميركية لناحية عدم احترام أوباما لخطوطه الحمر، ولتضحيته بالشعب السوري على مذبح أولوياته في المصالحة مع إيران ومجاراة إسرائيل. من خلال تهميش تركيا والاستثمار في الضعف العربي برز أيضا احتقار أوباما لثورة الشعب السوري خاصة مع التركيز على فزاعة وتهديد “داعش”، وإهمال الجوانب الأخلاقية والإنسانية والسياسية لارتكابات النظام لجهة حصاده في القتل والتعذيب والتجويع والحصار والتدمير.
بالطبع هذه السياسة المعيبة حسب وصف أحد الكتاب الأميركيين، لا تعفي القوى السورية والفصائل السورية المقاتلة من مسؤولياتها الذاتية في الحفاظ على نهج وطني ثوري من خلال الجيش الحر والبرنامج السياسي واضح المعالم، لكن مصالح القوى الداعمة لعبت دورا سلبيا من خلال دعم لقوى أيديولوجية همشت الجيش الحر، أو عبر إفساد المال السياسي واللعب على الأنانية المضخمة.
بيد أن لحظة الحساب هذه تخص السوريين لكشف القناع عن تجار السياسة والدين والمصالح الضيقة ودعاة القومجية البالية ممن كانوا بشكل غير مباشر إلى جانب النظام في تحطيم أحلام شباب الثورة النظيفة من أجل الحرية والكرامة وخيانة أبطالها ورموزها من الشهداء أو من هم في داخل المعتقلات أو المنافي.
هذه الملاحظات الواردة أعلاه لا تأتي من باب إعطاء الدروس لشعب يعطي الدروس في التضحيات، لكن إزاء حجم اللعبة الجهنمية الدائرة على الأرض السورية، لا بد من فرز قيادات تعي مواضع النقص في الأداء ولا تقبل بتسييرها خلافا لمصالح شعبها، إذ اتضح بما لا يقبل الشك أنه مقابل الحلف الحديدي لداعمي النظام أو الأوصياء عليه، لم يكن الجناح الأجنبي لمجموعة ما سمي أصدقاء سوريا إلا الغطاء للسيطرة على القرار تحت حجة الدعم اليسير أو النادر.
ومما لا شك فيه أن اللاعب الأميركي كان مايسترو الاحتواء والإدارة الماكيافيلية للملف السوري، أما اللاعبون الأوروبيون باستثناء اللاعب الفرنسي (الذي ارتكب أخطاء في التقييم والأداء، لكنه حافظ على موقف متماسك وقوي ضد رأس النظام) فتميزوا بارتهانهم للقرار الأميركي بالرغم من أن أزمة اللاجئين حولت الأزمة السورية إلى أزمة أوروبية، وبالرغم من ضرب الإرهاب للقارة القديمة ومخاطر انتقال شظايا بركان الشرق الأوسط القريب إليها.
لم ينجح اجتماع ميونيخ في لجم الاندفاعة الروسية نحو محاولة الحسم، وها هي خيارات كيري تتكسر على صخرة عناد لافروف ورئيسه القيصر الجديد. تذكرنا ميونيخ 2016 بميونيخ عشية الحرب العالمية الثانية. حينها كانت التوازنات دقيقة وهشة في أوروبا وانطوى اتفاق ميونيخ في 29 سبتمبر 1938، بين الفوهرر هتلر والإنكليزي تشامبرلين والفرنسي دالادييه والدوتشي موسوليني على نقل مقاطعة السوديت إلى ألمانيا وبداية الاستسلام أمام النازية، ولازم ذلك مباركة غير مباشرة من ستالين الذي انبرى للعمل مع الألمان في بولندا. إزاء كل ذلك كانت صرخة ونستون تشرشل “لقد اخترتم تفادي الحرب مع تحمل وصمة العار، لكن سيتملككم الخزي وستواجهون الحرب”، وصحت النبوءة وكانت الحرب.
اليوم تبدو الظروف مختلفة، لكن هذا التهاون أمام الحلف الروسي – الإيراني – الأسدي يعني أن هناك من لم يستفد من دروس ميونيخ القرن العشرين، وأنه لا يوجد تشرشل غربي حاليا، وأن معركة حلب بهمة السيد كيري ورئيسه في البيت الأبيض، يمكن أن تؤدي إما إلى سحق حركة الشعب السوري، وإما تكون مدخلا إلى نزاع أوسع.
على هذه الأرض في شمال سوريا تزدحم مصالح وأطماع وحقوق ومصائر. يتمثل الفارق الكبير عن صراعات القرن العشرين بالوجود الروسي والإيراني، لكن عامل التشابه يكمن في الدور الكردي. في تلك المرحلة أطاح أتاتورك بحلم الأكراد، وهذه المرة يبرز الصراع مع أردوغان ويحمل زخما من التحدي وقسطا من المجهول على المدى المتوسط. أما بالنسبة إلى سوريا فكل السيناريوهات حول إعادة سيطرة النظام أو تركيب سوريا المفيدة غرب طريق دمشق – حلب، أو التقسيم، أو الشكل الاتحادي، تبدو مرهونة بتطورات الصراع المفتوح.
حلب 2016 يمكن إذن أن تشبه ساراييفو 1914 عشية الحرب العالمية الأولى. حلب 2016 يمكن أن تشبه كذلك دمشق 1920 حينما انتهت الثورة العربية الكبرى. ألم يحذر الراحل محمود درويش من السقوط العربي حينما توقع أن “ندعو لأندلس إن حُوصرتْ حَلَبُ”.
المصدر : العرب