مقالات

بكر صدقي – عن فخ الهدنة الأمريكية ـ الروسية في سوريا

يبدو نص الهدنة التي توافق عليها الأمريكيون والروس بشأن «وقف العمليات العدائية في سوريا»، للوهلة الأولى، متوازناً لا ينحاز إلى طرف على حساب الآخر، فهو يعامل النظام وحلفاءه، بمن فيهم الروس، على قدم المساواة مع المعارضة المسلحة، ويدخل وقف عمليات الطيران الروسي والأسدي ضمن شروط الهدنة المقترحة، الأمر الذي لا تمتلك المعارضة المسلحة ما يقابله.

وكذا في ما يتعلق بوجوب عدم تحقيق أي من الطرفين أي تقدم على الأرض على حساب الطرف الآخر. وفي الشروط القائمة، حيث المعارضة في موقع دفاعي ضعيف على معظم جبهات القتال، وبخاصة في مدينة حلب وريفها الشمالي اللذين أنهكهما قصف الطيران الروسي الذي لم يوفر المستشفيات والمدارس والمناطق السكنية، تبدو الهدنة المقترحة، للوهلة الأولى، صفقة رابحة للمعارضة، وفرصة لالتقاط الأنفاس والحفاظ على المناطق التي ما زالت تسيطر عليها.

لكن التدقيق في الواقع الميداني المعقد من شأنه أن ينسف كل الإيجابيات المأمولة من هذه الخطوة. فالثغرة الرئيسية في هذه الهدنة، وفي القرار 2254 المؤسس لها، تبقى استثناء «داعش» و»جبهة النصرة» و»أي منظمات إرهابية أخرى يحددها مجلس الأمن»، كما ورد في النص الأمريكي ـ الروسي.

هذا يعني، قبل كل شيء، محاولة لفصل مسارين داخل الصراع السوري هما: «التسوية السياسية» وفقاً لمسار فيينا، من جهة أولى، و»الحرب على الإرهاب» من جهة ثانية. وإذا كان الروسي يركز في عملياته العسكرية على ضرب المعارضة المسلحة والبيئة المدنية في المناطق المحررة بهدف تقوية النظام عسكرياً وإعادة تأهيله سياسياً وإفراغ المناطق المحررة من سكانها، فالأمريكي يلعب خارج هذا الإطار تماماً وتشكل «الحرب على داعش» البند الوحيد على جدول أعماله، على هزالة هذه الحرب كما أثبت ذلك خلال عام ونصف العام من بدء عمليات القصف الجوي على مواقع داعش في إطار التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن. الجهة الوحيدة التي استفادت، نسبياً، من الحرب الأمريكية على داعش إنما هي «وحدات حماية الشعب» (الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديموقراطي بقيادة صالح مسلم).

فقد نجح هذا الحزب في صد هجوم داعش على كوباني، العام الماضي، وطرد داعش من تل أبيض والريف المحيط بها، ثم استولى على سد تشرين، بدعم جوي من طيران التحالف، كما تلقى السلاح والذخيرة من الأمريكيين. حين بدأت معركة حصار حلب والسيطرة على معبر باب السلامة الحدودي بواسطة القصف الوحشي للطيران الروسي، استولت وحدات الحماية وحلفاؤها على عدة قرى عربية قرب إعزاز، في تكرار لسيناريو السيطرة على تل أبيض.

وهكذا تبدو ما تسمى «قوات سوريا الديمقراطية»، التي تشكل وحدات الحماية عمودها الفقري، الطرف الوحيد الذي سينجو من وصفه بالإرهاب، بما أنه يقوم بوظيفة القوات الميدانية للحرب الدولية على داعش بقيادة الولايات المتحدة، وخاصةً أنه لا يقاتل النظام. في حين أن الفصائل المسلحة التي تقاتل النظام، ومنها تلك الموصوفة بـ»الإسلامية المعتدلة»، يعتبرها الروسي إرهابية، ولا يهتم الأمريكي بالدفاع عنها في وجه هذا الاتهام.

الأخطر من ذلك هو أن جبهة النصرة، التي تعتبر إرهابية بإجماع الدول الفاعلة في الصراع السوري، لا تسيطر على مواقع محددة بمفردها، على غرار داعش، بل توجد قواتها بشكل متداخل مع الفصائل الأخرى. وهذا ما سيسهل على الروسي استهداف هذه الأخيرة بحجة ضرب النصرة، الأمر الذي يعني أن المناطق الآهلة بالسكان والمرافق الصحية والتعليمية لن تكون بمنأى عن الاستهداف، ما دام يمكن تبرير قصفها من قبل النظام والطيران الروسي بزعم أن «الإرهابيين» يتحصنون فيها.

إن جزرة الهدنة الممدودة إلى المعارضة المسلحة لا تخفي العصا الأمريكية ـ الروسية التي تقف وراءها: من لا يوافق على الهدنة بشروطها سيعتبر إرهابياً ويتم استهدافه. بل تنطوي «الهدنة» المفترضة على مخاطر اقتتال داخلي بين الفصائل من جهة، وجبهة النصرة ومن قد يقف معها من الفصائل من جهة ثانية. أو قد تشهد تحالفات قائمة تضم النصرة، كحال «غرفة عمليات جيش الفتح» مثلاً، انشقاقات واقتتالاً داخلياً، هرباً من اعتبارها إرهابية واستهدافها.

الواقع أن معارضي نظام الكيماوي يبدون كبالع الموس على الحدين، وفق التعبير الشامي المعروف. فلا هم يستطيعون التبرؤ من الفصائل الإسلامية التي تقاتل النظام، وأهمها سلفية جهادية كالنصرة وأحرار الشام وجيش الإسلام وغيرها، ولا هم قادرون على اعتبارها مكوناً من مكونات الثورة. فالتبرؤ منها سيؤدي إلى اقتتال داخلي وإنهاء ما تبقى من فكرة الجيش الحر من جهة، وإلى دفع الفصائل الجهادية إلى موقع داعش أو انتقال أقسام كبيرة من مقاتليها إلى صفوف داعش مباشرةً. وفي المحصلة تكون المعادلة التي أرادها النظام منذ بداية الثورة السلمية قد تحققت: أي الاختيار بينه وبين «الإرهاب» ممثلاً في داعش وأخواته.

سيكسب النظام، أو بالأحرى روسيا، التي باتت وصياً عليه، الكثير. محافظة إدلب التي طرد منها في الربيع الماضي، قد تكون ميدان المعركة الأهم بعد حلب، بسبب سيطرة جبهة النصرة المتحالفة مع أحرار الشام عليها. وتكمن أهمية هذه المحافظة الكبيرة في أنها تشكل امتداداً جغرافياً للساحل وسهل الغاب حيث القاعدة الاجتماعية الصلبة للنظام. فإذا تمكنت قوات النظام، مع حلفائها من الميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات، من استعادة هذه المحافظة تحت الغطاء الجوي الروسي وبمباركة من مجلس الأمن، ستكون «سوريا المفيدة» قد اكتملت إلى حد بعيد، خاصة إذا سبقت ذلك السيطرة على حلب وريفها.

وستكسب إيران، وبيدقها اللبناني «حزب الله»، معركة السيطرة على القلمون الذي هو اليوم بيد جبهة النصرة الموصوفة بالإرهاب بإجماع «المجتمع الدولي». وربما ينطبق الأمر نفسه على الجبهة الجنوبية قرب العاصمة دمشق حيث تعتبر النصرة أحد أقوى الفصائل.

هذا السيناريو الكابوسي موجود «بالقوة» داخل قرار «الهدنة» الأمريكية ـ الروسية. وهو يعني، كيفما نظرت إليه، تقسيم سوريا، بصورة عملية، بين ثلاث قوى مسيطرة على الأرض: بقايا النظام وحلفاؤه، وداعش، ووحدات حماية الشعب، بعد الإجهاز على ما تبقى من فكرة الثورة الوطنية. فالقوى الثلاث المذكورة لا تملك أي برنامج وطني، ناهيكم عن الثورة: النظام المستتبع لإيران وروسيا في «سوريا المفيدة»، وداعش في «دولتها الإسلامية» العابرة للحدود، ووحدات الحماية المكتفية بالشريط الشمالي المحاذي لتركيا. مع استمرار الحرب الدولية على داعش التي لا تسعى إلى استئصالها، بل «احتوائها» فقط على ما قال الأمريكيون منذ البداية.
المشكلة أن رفض الهدنة ليس خياراً بديلاً للقبول بها.

المصدر : القدس العربي 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى