عبر سلسلة من التصريحات والمواقف المتواترة بدا نظام الأسد وكأنه يريد إعادة موضعة نفسه ضمن سياق التطورات الميدانية والسياسية في سوريا وذلك من منطلق أنه لاعباً أساسياً وصانع للفارق الميداني الحاصل، وكأن اللاعبين الاخرين الذين يشاركونه اللعبة ليسوا سوى مرتزقة مأحورين جاءوا الى الميدان السوري لتثبيت سلطته ومن ثم سيعودون لقواعدهم فور إنجاز المهمة؟.
تصريحات بشار الأسد، وبعض أركان نظامه، عن انهم سيواصلون الحرب لإستعادة السيطرة على كامل الاراضي السورية وحتى لو استمر ذلك سنوات لم يكن صداها في موسكو جيداً، لا بل انها شكّلت خرقاً لقواعد اللعبة الدولية والإقليمية التي تنخرط روسيا بها، وهذا ما استدعى رداً علنياً من قبل فيتالي تشوركين، مندوب روسيا الدائم في الامم المتحدة، وصل إلى حد يمكن تشبهه بالتوبيخ العلني في اللغة الدبلوماسية، ، ترى ألم يكن بإمكان فلاديمير بوتين إيصال مضمون ما يريده بمكالمة هاتفية؟، من الواضح أن العلنية كان المقصود منها طمأنة اللاعبين الأخرين إلى أن الامور لم تخرج عن نسق التفاهمات المعقودة، على الأقل فيما يخض المآلات، وخاصة وأن روسيا التي بالغت في أخطاءها التنفيذية ظلّت تطمئن اللاعبين الإقليميين والدوليين الى ان العبرة في المآلات، حتى لو كان ذلك مجرد تكتيك لتخفيف حدة الإنتقادات الموجهة ضد روسيا.
ربما يعود السبب الحقيقي لتصريحات الأسد، وخاصة وأنه تعمّد إطلاقها عبر منبر داخلي،إدراك الأسد أكثر من غيره أن اهدافه قد تلتقي مع الأهداف الروسية ولكنها لن تتطايق مع بعضها، وأنه عند لحظة زمنية وتطورات عملانية في مسار علاقتهما ستبدأ الأهداف بالإفتراق، في تلك اللحظة ستكون موسكو قد باشرت بتشبيك نتائج وجودها في سورية مع جملة من الإرتباطات والمصالح في الملفات الدولية التي تتفاوض فيها روسيا مع العالم، وفي تلك اللحظة سيتحول نظام الأسد إلى مجرد عنصر من عناصر التفاوض ولن يكون معطى ثابت في واقع شديد التغير لدرجة السيولة.
ومن جهتها، تدرك روسيا ان ثمة جزئية مخفية في نجاحها تتعلق بعدم وجود تصدي جدي لها من قبل الاطراف الإقليمية والدولية وأنه لو حصل ذلك لتغيرت تماما مسارات الحرب، وان ذلك لن يستمر طويلا وأنه اذا شعرت الأطراف بخلاف ذلك فإن الامور ستنقلب على روسيا ووقتها ليس فقط ستخسر الحرب بل وتخسر معها كل التقدم الذي احرزته في ملفات كثيرة.
كما أن روسيا الخبيرة بمعتركات السياسة الدولية، تعرف أنها ستذهب للتسويات وذلك لا يعني ان مطالبها هي فقط ما سيتم تحقيقه في بازار المساومات، بل تدرك أنه من المستحيل الغاء مطالب الشعب السوري في تغيير الأسد فذلك أكبر من أن تنهيه غارات السوخوي في أشهر محددة، كما ان هذا الأمر باتت له حيثيات ووقائع كثيرة بحيث يصعب إستئصالها بالحرب مهما بلغت قدرتها التدميرية، ثم ان روسيا نفسها باتت تحتاج لسنوات طويلة حتى تلملم التداعيات التي احدثها إنخراطها في الحرب السورية، وأن أفضل مخرج لها هو التوافق على حل سياسي تظهر من خلاله موسكو أنها كانت تسعى لإنهاء الأزمة وليس معاداة شعب سورية وإمتداده العربي والسني، أكثر من ذلك تجد روسيا أنها أمام فرصة لن تتكرر، ففي الوقت الذي باتت مطالب خصومها تتركز في إزاحة الأسد وهو ثمن رخيص، فإن العالم مقابل ذلك مستعد لتقديم الكثير من الإغراءت لها واولها الإعتراف الشرعي بوجودها في سورية.
روسيا استثمرت بجدية بالغة في هذه الازمة سياسيا وديبلوماسيا والان على الصعيد العسكري، هذا ما قاله تشوركين بكل وضوح وواقعية سياسية ربما لم نعهدها في الخطاب السياسي الروسي طوال فترة حكم بوتين، وهذه الواقعية قرضتها لا شك معطيات كثيرة، منها ظهور مؤشرات تملمّل وخوف في الداخل الروسي، إما بسبب تراجع مستوى المعيشة نتيجة العقوبات الإقتصادية، أو لحاجة الروس إلى رؤية أفق لهذه الحرب فهم غير مستعدين للإنخراط في حروب حتى أجل غير معلوم، إضافة إلى معرفة القيادة الروسية إلى ان الأمور بلغت الذروة في الإحتمال الدولي والإقليمي وأنه ما لم تبدأ روسيا بإظهار العكس فإن الكثير من الإجراءات ستبدا بالتبلور والظهور، ليس حبا بالعدالة ولا كرمى لعيون الشعب السوري، ولكن لأن تداعيات حرب بوتين بدأت تفيض بقوة على الإقليم واوروبا وحتى مصالح اميركا نفسها.
ربما من المبكر الذهاب إلى نتائج حاسمة وتحديد المسارات القادمة بدقة، كما أن مقدمات الإنخراط الروسي في الحرب لسورية لا تشي بعملية إنفكاك سريعة، لكن هذا الرد الروسي يكفي لإعتباره مؤشرا أولياً على على تغيير في المقاربة وأدوات التنفيذ، بقدر ما هو مؤشراً حاسماً على أن الأسد وسلطته قد تم وضعهم على سكة التغيير المستقبلي وإخراجهم من دائرة التأثير، وهذا يكشف بوضوح أن الأسد كان موجوداً ضمن الخطة الروسية فقط في دوائر التنفيذ ومغيب تماماً عن صورة المشهد الإستراتيجي الذي يجري رسمه بين الكبار.
المصدر : عربي 21