انعقد الجمعة الماضي المنتدى العربي الروسي في العاصمة الروسية موسكو، وترأسه من الجانب الروسي وزير الخارجية سيرجي لافروف، ومن الجانب العربي الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير خارجية دولة الإمارات رئيس المجلس الوزاري ، وحضره الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي، ووزراء خارجية كل من السودان وعمان وليبيا والجزائر واليمن.
وتطرقت الأطراف الحاضرة في المنتدى إلى جملة من الملفات العالقة اليوم على مستوى المنطقة العربية، بما في ذلك الأزمة اليمنية، والوضع في سوريا والعقوبات المفروضة على السودان. وأكد الجانب الروسي تطابق رؤاه وقراءته حول الكثير من الملفات مع مواقف الجامعة العربية.
ويأتي انعقاد المنتدى العربي- الروسي في وضع حرج للعلاقات العربية الروسية، بعد أن اختلطت الأزمة السورية بتعقيدات العلاقة التركية- الكردية- الروسية – الأميركية، والأسئلة التي باتت تحوم حول جدية الأطراف الدولية في القضاء على داعش. ولهذا كان لا بد من أن تطرح على المنتدى العربي- الروسي سبل وضع آليات تنسيق دائمة للتشاور، وكفيلة بتطوير العلاقات بين الجانبين وفق قاعدة اقتصادية وأمنية تستجيب لتحديات المرحلة التي تعد الأزمة السورية أحد أهم ملامحها.
تفيد تصريحات فيتالي تشوركين مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة الأخيرة، صراحة بأن النظام السياسي السوري يجب أن يقبل آجلا أو عاجلا بتسوية سياسية، وأن روسيا في هذا المسعى الدبلوماسي تريد تفادي أي تصاعد واستنزاف لها في الحرب القائمة كي لا تتفاقم الأوضاع، وأنها تريد أن تخرج رؤوس النظام السوري بـ”كرامة محفوظة”، وهي في مسعاها الدبلوماسي والعسكري لا تريد الدخول في نفق يصعب الخروج منه. ورغم أن طهران ليست خصما لموسكو فإنها تدرك أن حضور حليف أكثر قوة وتأثيرا، يضعف ورقتها العسكرية والسياسية نسبيا، ولا يجعل النظام السوري على قدر الحاجة إليها، كما لو كانت موسكو غائبة، مما يعني أن سوريا لم تعد تحت هيمنة إيرانية مطلقة، وأن دمشق لم تعد مقيدة بالدعم الإيراني.
وبالرغم من صعوبة الحل، وتوافق الأطراف الإقليمية والدولية على خارطة طريق، فإن نتائج محادثات فيينا التي ضمت ممثلي وزراء خارجية 17 دولة في 30 نوفمبر الماضي تضمن بيانها تسعة مبادئ تدعو إلى “وحدة الدولة السورية، واستقلالها، وسلامة أراضيها، وأن تكون العملية السياسية سورية وبقيادة سورية، وأن يتم إيقاف إطلاق النار، وأن يقرر الشعب السوري مصيره، بحيث يتم الاتفاق على تشكيل حكومة انتقالية خلال 18 شهرا”. ومرد هذه المساعي أن روسيا اعتبرت أن “بقاء الأسد ليس حتميا”، وهو اعتراف يضع لا محالة علاقتها التحالفية مع طهران على المحك مستقبلا.
من حيث المبدأ، حملت الرسالة إشارات واضحة للنظام السوري، والمعارضة، والأطراف الإقليمية والدولية، فهي إذا كانت مصرة في ذات الوقت على التمسك ببقاء الأسد في الوقت الحالي، فإن ذلك يتم من زاوية الحفاظ على مصالحها، وربما يكون شر لا بد منه في نظرها في الوقت الحالي.
وتستند موسكو في تدخلها العسكري بكونه تم بناء على اتفاق مع الحكومة السورية، ويسعى هذا التدخل العسكري إلى مواجهة الإرهاب، ومنع الجماعات الشياشانية والقوقازية التي تقاتل مع داعش وجبهة النصرة وبعض المنظمات الإسلامية المسلحة من العودة إلى روسيا. غير أن روسيا في الحقيقة تريد فرض نفسها كمعادلة دولية معترف بها في المتوسط، والرد على العقوبات التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي بعد أزمة أوكرانيا، وضم القرم، والحفاظ على موقعها البحري في شرق المتوسط، كما أنها تعري بتدخلها السياسة الأميركية المترددة والهزيلة والخالية من أي استراتيجية وازنة لوضع نهاية للأزمة السورية، ومواجهة تنظيم الدولة الإسلامية والجماعات الإرهابية الأخرى.
العلاقات الروسية – العربية
يتوجس الروس من استنساخ التجربة الأفغانية في سوريا، ولذلك يحاولون إقناع الدول العربية النافذة بأن مكافحة الإرهاب في سوريا مصلحة مشتركة، ويغذي هذا التوجس الخوف من انتقال المقاتلين الشيشان لاحقا إلى الأراضي الروسية والجمهوريات الروسية المسلمة. أما الدول العربية، فباتت تدرك بأنه بات من الضروري أن تفرق روسيا بين معارضة معتدلة وغير معتدلة في الساحة السورية وتستجيب لمطالب المعارضة السورية المشروعة، لكن موسكو تناور، وتصر بالقول إن ضرب المشاريع التركية يقتضي ضرب القوى الإسلامية المرتبطة بها، والتي ستؤدي حتما إلى إضعاف الدور التركي في سوريا. وهو ما يبرر على المستوى الاستراتيجي بأن روسيا لا يمكن أن تقبل قيام نظام سياسي في سوريا سواء بيد حركة الإخوان المسلمين أو بيد القوى الإرهابية المتطرفة. كما أنها تعتبر أن إصرار أنقرة على “المنطقة الآمنة” غايته التنصل من حل القضية الكردية، وعزلها عن الحدود السورية التركية، ويصب في النهاية في تقسيم سوريا وعدم محاربة القوى التكفيرية المتطرفة.
ولكن لا بد من الانتباه في نفس الوقت، إلى أن موسكو تحاول أن تنأى بنفسها عن شبهة الانخراط في الصراع السني- الشيعي، لأن ذلك ينعكس سلبا على جبهتها الداخلية، وقد يدفع مواطنيها من السنة الذين يشكلون حوالي 20 بالمئة من السكان إلى العداء تجاهها. وترى بأن إخراج سوريا من النظام الإقليمي العربي لصالح طهران، هو خيار غير استراتيجي، وينعكس سلبا على مصالحها مع دول الخليج العربي. حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا والدول العربية 14 مليار دولار، لذلك عمدت إلى توسيع دائرة التنسيق مع مصر والأردن، والإمارات العربية المتحدة، وحرصت على إبقاء جسور الاتصال مع السعودية قائمة، فيما عمدت إلى الاتصال بالمعارضة السورية الأخرى، لأنها تدرك بأن السياسة الإيرانية سياسة عدائية تجاه أغلب دول المنطقة العربية، وتقوم على إحياء النعرات الطائفية والمذهبية، بحيث لا يمكنها السير وراء هذه السياسة الإيرانية للحفاظ على مصالحها.
وبالتالي، فإنه رغم كل ما سبق من اختلاف بين المملكة العربية السعودية وروسيا حول الأزمة في سوريا، إلا أن موسكو لا تريد القطيعة مع الرياض، لأنها تدرك ثقل الدور السعودي في المعادلة السورية، لذلك تحاول الحفاظ على علاقات متطورة، والخروج من دائرة علاقتها التقليدية التي كانت تعتمد حصريا على سوريا وإيران. حيث أرسلت إشارة واضحة عندما وافقت على القرار 2216 حول اليمن، والذي يصب في مصلحة المملكة العربية السعودية. كما أن هناك محددا اقتصاديا هاما يكمن في النفط، وتعتقد موسكو أن تعاونها مع المملكة لتجميد الإنتاج في حدود مقبولة، يساعد على أن يتعافى السوق ويمتص الفائض المعروض.
وأمام العملية الدبلوماسية التي قادتها موسكو، بذلت المملكة العربية السعودية جهودا حثيثة من أجل جمع شمل المعارضة السياسية والعسكرية، ونجحت في عقد مؤتمر للمعارضة السورية المعتدلة في الرياض، والذي وضع من أحد أهدافه تحريك جهود الحل السياسي وتقديم تمثيلية واسعة متفق عليها ودولة مدنية، وتبعته عدة محاولات تصب في صالح إخراج روسيا من أسر العلاقات الخاصة مع طهران، وبضرورة خروج الأذرع الإيرانية التي يقودها قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني من سوريا، وضرورة وضعها في لوائح الإرهاب.
وليس من المبالغة القول إنه رغم الخلاف القائم حول بشار الأسد في المرحلة الحالية، فإن موسكو صرحت بعد بيان فيينا 2 بأن “بقاء الأسد ليس حتميا”، وهو ما رفع من وتيرة اعتراض إيران عليه، كما أن الطيران الروسي خرق الهدنة المبرمة بين إيران وجيش الفتح في جبهات الفوعة وكفريا بريف إدلب، والزبداني بريف دمشق دون الاكتراث باعتراضات إيران. ولم يتردد المرشد علي خامنئي في الرد “إن أحدا لا يستطيع أن يقرر مصير سوريا بمفرده”. لذلك يبدو أن فتح حوار التنسيق العربي- الروسي فرصة لتحجيم دور إيران وتأثيراته السلبية، ومنعها بالأساس من إحداث تحولات ديموغرافية داخل سوريا.
وعموما فإن العلاقات العربية مع موسكو لن تنتهي إلى قطيعة، والعرب ليسوا معنيين في الوقت الحالي بتقويض علاقاتهم مع روسيا إرضاء للولايات المتحدة الأميركية أو تركيا، لأن موسكو لها حساباتها ومصالحها الخاصة التي قد لا تتطابق كليا مع المصالح الإيرانية، بل قد تتعارض معها أحيانا، وهو المهم حاليا. لذلك، فإن فتح الباب أمام شراكة اقتصادية وعسكرية استراتيجية مع موسكو، يجعل منها شريكا اقتصاديا، ويؤسس لعلاقات استراتيجية مستقبلية، يستخدمها العرب كورقة ضغط في صراعهم مع إيران، كما استخدمت إيران موسكو في صراعها مع الغرب في الملف النووي.
وتجدر الإشارة، إلى أنه قد تم توقيع ست اتفاقيات ومذكرات تعاون استراتيجية في المجالات العسكرية والفضائية وفي المفاعلات النووية. كما تم الإعلان عن تأسيس صندوق استثماري بمبلغ 4 مليارات دولار بين الرياض وموسكو في نوفمبر 2015، بالإضافة إلى صندوق استثماري آخر وصلت قيمته إلى عشرة مليارات دولار عقب الزيارة الرسمية التي أداها الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد السعودي إلى روسيا في يونيو الماضي. كما أن انعقاد الاجتماع الخامس للجنة المشتركة بين الإمارات العربية المتحدة وروسيا في نوفمبر 2015، حرك التعاون السياحي والعلمي والثقافي، كما حظيت العلاقات الروسية – المصرية بدعم منقطع النظير من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة.
وتقوم الاستراتيجية العربية التي تقودها السعودية حاليا، على تجاوز الخلافات السياسية الظرفية مع موسكو، إيمانا منها بأن التدخل الروسي قطع الطريق على الانفراد الإيراني بالشأن السوري، وقد يترتب عن الدخول معه في تسويات وتفاهمات بشأن سوريا غايته الحيلولة دون وقوع الورقة الروسية كورقة ضغط في يد إيران. وتدرك روسيا أن علاقتها مع الدول العربية المحورية تساعدها في الالتفاف حول العزلة المفروضة عليها من الدول الغربية. ولكن رغم ذلك مازالت العلاقات العربية الروسية لم تترسخ بعد، ولم تقفز كليا على حائط الشكوك في النوايا.
المصدر : العرب