ربما يكون انتعاش تنظيم «الدولة الإسلامية» وانتشاره وتوسعه ناتجا عن فشل ثورات «الربيع العربي» وانهيار آمال وأحلام الشباب العربي في التغيير والإصلاح، وتحسين الأحوال، لكن أنصار هذا التنظيم ومؤيدوه يتحدثون عن ظهوره قبل سنوات من قيام ثورات العرب، وتحديداً في مناطق في العراق شهدت سنوات حالكة بعد انهيار نظام صدام حسين والاحتلال الأمريكي للبلاد.
لا يمكن بكل تأكيد اختصار «الحالة الداعشية» في عامل واحد، أو في كونها ردة فعل على الثورات المضادة التي أطاحت بآمال الشباب العربي وطموحاتهم، بل إن ثمة إشارة بالغة الأهمية تتعلق في كون التنظيم كان موجوداً ومنتشراً ومنتعشاً في العراق، الذي لم يشهد ثورة أطاحت بنظام، ولا ثورة مضادة أعادت النظام البائد، وهو ما يعني أن عوامل ولادة هذا التنظيم وإنتاج عناصره، فكراً وتنظيماً، لا يمكن تسطيحها واختصارها في أن «الدولة الاسلامية» قامت على أنقاض دول مركزية غابت عن مناطق نائية في العراق وسوريا، أو أنها قامت كرد فعل على الثورات المضادة.
ثمة عاملان مُهمَّان أديا إلى نشوء تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام»، وهما اللذان يساهمان اليوم في انتشاره واتساع رقعة المؤمنين بأفكاره، وربما يكون هناك العديد من العوامل الأخرى التي ساهمت أيضاً، لكننا نعتقد أن كل العوامل الأخرى تظل ثانوية ويمكن تجاوزها، أما هذان العاملان فلا يمكن إلا أن ينتهيا إلى حالة متطرفة كتلك التي نشهدها اليوم في المنطقة العربية.
العامل الأول، هو أنظمة الاستبداد العربي، وهي أنظمة رجعية متخلفة تقوم على القمع والظلم واضطهاد المواطنين وأكل حقوقهم، وما دام الإنسان في هذه الدول العربية غير قادر على التغيير بأي وسيلة سلمية، فإن رد فعله الطبيعي هو الجنوح نحو العنف والتطرف؛ إذ أن أغلب قادة وزعماء ومقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية» تبين أنهم تعرضوا للاعتقال والاضطهاد والقمع والتعنيف، فخرجوا من زنازين الاعتقال أكثر تطرفاً مما دخلوها، خرجوا يتبنون أفكار التكفير، وتحكمهم شهوة الانتقام والرغبة الجامحة في الثأر، أكثر مما تحكمهم قيم التسامح والعدالة.
ثمَّة الكثيرُ من الأمثلة على متطرفين لم يكونوا سوى ضحايا لأنظمة سياسية متطرفة، أنظمة مارست القمع والقهر والاعتقال والتعذيب ضدهم، قبل أن يردوا بالجنوح نحو التطرف المضاد الذي وجدوا فيه ضالتهم، وربما يمثل زعيم تنظيم الدولة أبو بكر البغدادي واحداً من أبرز وأوضح هذه الأمثلة وهو الذي أمضى سنوات من عمره في سجن «بوكا» جنوب العراق، في أعقاب الاحتلال الأمريكي لبلاده، ليصبح لاحقاً زعيماً لأخطر تنظيم عسكري في العالم، بعد أن كان قبلها بسنوات تلميذاً في جامعة بغداد يتلقى العلوم الشرعية هناك.
أما العامل الثاني الذي يغذي اليوم تنظيم «الدولة الاسلامية»، ويمثل ماكينة لإنتاج الدواعش في العالم بأسره وليس فقط في المنطقة العربية، فهو التغول الإيراني والمد الفارسي الذي يجتاح الأمة، والذي جعل العرب السنة يشعرون بأنهم أصحاب هوية مهددة، وأن «الحالة الداعشية» هي سفينة النجاة لهذه الهوية ووسيلة التصدي لمحاولات طمسها. خلال فترة قصيرة أصبحت إيران تحكم أربع عواصم عربية، فيما يشهد المشروع الايراني في المنطقة توسعاً مستمرا، مع انكفاء المشروع الأمريكي وفشله في المنطقة منذ منتصف العقد الماضي، وانسحاب الولايات المتحدة وتراجع أولوياتها في المنطقة، بما ترك فراغاً نجحت إيران وحدها في تعبئته والاستفادة منه واستغلاله، فيما وجد العربُ أنفسهم في حالة تهديد مباشر لهويتهم، وهي حالة شبيهة بتلك التي سادت العالم العربي في أعقاب انهيار الامبراطورية العثمانية، عندما حلَّت قوى أجنبية على المنطقة كبديل للقوة التركية، ووجد العربُ أنفسهم عاجزين عن إقامة دولتهم – أو دولهم- القومية.
ممارسات إيران وحلفائها في المنطقة العربية تمثل وقوداً لإنتاج «الدواعش»، هذه الممارسات التي تمتد من سوريا إلى العراق فلبنان واليمن يقرأها العربُ السنة على أنها ممارسات طائفية، وأنها محاولة لاستهدافهم على أساس طائفي، وهي النظرية التي يتبناها تنظيم «الدولة الاسلامية» ويعمل على أساسها، وصولاً إلى تبني التنظيم نظرية أكثر تطرفاً وجنوناً تقول بأن «قتال الشيعة أولى وأوجب من قتال الكفار».
بهذين العاملين نشأ وترعرع تنظيم «داعش» الذي تحاربه أوروبا وأمريكا وأقطار العالم، وبهما يشهد العالمُ العربيُ موجة غير مسبوقة من التطرف، أما الكارثة فهي أن الدول الغربية المتحضرة تقدم الدعم والمعونة والرعاية للأنظمة الرجعية المستبدة، التي هي العامل الأهم في ظهور التنظيم وازدهاره، كما يسكت العالم على المشروع الايراني في المنطقة، بل يتم تقديم الدعم لهذا المشروع عبر قوى كبرى مثل روسيا وغيرها.
خلاصة القول، إن هزيمة تنظيم الدولة والتصدي له واستئصاله لا يمكن أن يتم إلا عبر الاعتراف بأن ثمة مسببات لهذه الظاهرة يجب التعامل معها، وفي مقدمة هذه المسببات وقف دعم الثورات المضادة والأنظمة المستبدة ووقف المد الايراني في المنطقة العربية، وهذه المسببات هي الآلات التي تقوم بإنتاج «الدواعش» في مختلف أنحاء العالم.
المصدر : القدس العربي