مقالات

منير الخطيب – الثورة السورية لم تتحول إلى حرب

في الذكرى الخامسة لانطلاق الثورة السورية، من المهم التفكير في إحدى الإشكاليات الملتبسة، التي خالطت النظر إليها من زاوية الحرب المدمرة الدائرة على امتداد الجغرافيا السورية.

فكما يقول أهل المنطق: المقدمات تتضمن النتائج، فليس منطقياً محاولة إقامة صلات وروابط ما بين الثورة السلمية ذات الأفق الوطني السوري التي انطلقت في آذار (مارس) 2011، وبين فكر وممارسات الجماعات والفصائل الإسلامية المسلحة، التي زادت من تحاجز «المجتمعات» السورية ومن تمركزها حول عصبياتها وأوثانها الذاتية، وفق المعايير ذاتها التي لا يمكن بواسطتها، مثلاً، إقامة صلات وروابط بين حنجرة القاشوش و «السيف الداعشي» الذي جزّ الرؤوس، أو بين أنامل علي فرزات والأيدي التي سرقت معامل المناطق الصناعية في مدينة حلب، وبين روحانية وإنسانوية الأب باولو وفتاوى القتل والسبي لأمراء الحرب المتشابهين.

لم تتحول الثورة السورية إلى حرب، لأنها أعلنت منذ البدايات انحيازها إلى قضايا الحرية والكرامة والدولة الوطنية، وسعيها لنقل سورية سلمياً إلى وضع ديموقراطي، وانتماءها سوسيولوجياً وثقافياً وسياسياً إلى فضاء عام متخالف ومختلف عن المجالات المذهبية الحصرية، التي تنتمي إليها ميليشيات الحرب.

أيضاً، لم يكن البعد الإسلامي، الذي ظهر في شعارات الحراك السلمي في ساحات المدن السورية وبلداتها، موصولاً بالعصبوية الأيديولوجية الحاكمة على تيارات الإسلام السياسي وأحزابه وفصائله، من جهة. ومن جهة ثانية، كان بعداً مندرجاً في منظورات وطنية سورية، ومفتوحاً على المستقبل ومسائله أكثر بكثير من قابليته للنكوص وللاحتماء في أيديولوجيات سلفية أكانت جهادية أم دعوية.

وأفصحت شعارات الثورة الأبرز: «الشعب السوري واحد»، «لا سلفية ولا إخوان بدنا دولة مدنية»، «لا إيران ولا حزب الله بدنا دولة تخاف الله»، إضافة إلى تسمية أيام التظاهر بأسماء قادة وطنيين سوريين من مختلف الطوائف والقوميات، والتفاعل الشعبي الحاسم مع مختلف الشعارات والتسميات ذات الطابع الوطني السوري، عن وعي التنسيقيات والناشطين الشباب وجميع فاعليات الثورة السلمية، بعمق إشكالية الانقسامات المذهبية والقومية في المجتمع السوري. كذلك فهو عبّر عن إدراكهم مدى قدرة واستعداد النظام لتنفيذ شعاره الوحيد الذي صدق فيه لاحقاً «الأسد أو نحرق البلد».

طمحت الثورة السلمية إلى إعادة الاعتبار للسياسة بوصفها فاعلية مجتمعية هادفة لبناء مجال وطني عام، وكان حدّ التظاهر فيها موجهاً ضد عناصر الحرب الداخلية الثاوية في البنى الثقافية والمجتمعية في «سورية الأيديولوجية» و «سورية الممانعة والمقاومة»، وعلى الأخص في مؤسستها العسكرية العقائدية، التي لم تكن في يوم من الأيام سوى مؤسسة حرب على «الشعب»السوري.

ولأن الثورة السلمية حاولت انتزاع «سورية الأيديولوجية» شكلاً، والمنقسمة والمحتقنة مذهبياً وإثنياً مضموناً، من أحضان المحور الإقليمي الذي تقوده إيران الخمينية، بوصفه محور توليد الحروب والصراعات الدافعة إلى الخلف، لجأ هذا المحور إلى استراتيجية استقدام عناصر الحرب على المستويين المحلي والإقليمي وتوظيفها لإغراق المنحى المدني للثورة ولإظهارها للعالم على أنها ثورة سنية في مرحلة أولى، وسنية مسلحة ومتطرفة في مرحلة ثانية.

كما خدم تلك الاستراتيجية، التي أغرقت سلمية الثورة بالفوضى والتوحش، ضعف «الاجتماع الوطني السوري»، معززاً بقوة وكثافة النزوع المعادي لواقع التعدد والاختلاف، والذي كان مختزناً وكامناً في النواة المذهبية الأمنية للنظام التسلطي، والنوى المذهبية العميقة «للمجتمعات التقليدية» في سورية، على حد سواء. وأيضاً، خدمها اندراج قوى الصراع المسلحة المحلية في قنوات نظامين (إقليمي ودولي)، يتسمان بالمرونة والسيولة وعدم الاستقرار، وخدمها، كذلك، تعالق الصراع الدولي والإقليمي على موقع سورية الجيوبوليتيكي مع الانقسامات الإثنية والمذهبية الداخلية.

في المحصلة، غلب تشابك تلك الشروط إرادة الحرية لدى السوريين، وأجهض أحلامهم بالانتقال إلى وضع ديموقراطي، لكن على رغم ذلك، فإن لحظة الثورة السورية السلمية عام 2011، إضافة للحظة «الليبرالية» بعيد الاستقلال، هما لحظتان تأسيسيتان، تجب استعادتهما عند التفكير والعمل لبناء نظام وطني سوري مستقبلاً سواء كان نظاماً مركزياً أو لامركزياً.

المصدر : الحياة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى