مقالات

عمار ديوب – الهدنة وعودة المظاهرات في سورية

ما إن سرت الهدنة على الأرض في سورية، في ليل 27 فبراير/ شباط الماضي، حتى عادت المظاهرات الشعبية. عمّت مدن سورية بأكملها، من درعا إلى حمص وحماة وحلب وجسر الشغور والقنيطرة، وريف دمشق وسواها. إذاً، هناك رغبة كبيرة في استعادة القرار الثوري للداخل، ورفض الخيار العسكري من كل الأطراف، ونزعة الالتحاق بالدول الإقليمية والعظمى.

أكثر المُكرهين على الهدنة هم النظام وإيران وحزب الله والمليشيات الطائفية أولاً، والتنظيمات العسكرية المناهضة له ثانياً، فالنظام يعلم أن الهدنة “تقويه”، لكنها بداية النهاية له! تثبت الهدنة التقدم الروسي على الأرض السورية، لكن الانتقادات الروسية لم تتوقف عن ملاحقة كل ما يصدر عن النظام، وأن هدف الروس بسط سيطرتهم على سورية، وهذا لا يتحقق من دون حلٍّ سياسي، سيقلص نفوذه ونفوذ حلفه الإقليمي، ويجعله طرفاً، وليس مسيطراً على سورية.

كانت الهدنة شرطاً لوفد الرياض للتفاوض، وأراد الروس والأميركان البدء بهذا الإجراء الأكثر أهمية للسوريين الذين فرحوا بالهدنة، وراحوا يجدّدون العودة إلى المظاهرات الشعبية، وإلى شعارهم المركزي حينذاك: الشعب يريد إسقاط النظام. هم أرادوا إيصال رسالةٍ واضحةٍ للعالم: نريد الهدنة ونريد التفاوض، ونريد تحقيق أهدافنا في سورية للجميع، وكل هذا التدخل يجب أن يوصل السوريين إلى هذه الغاية تحديداً.

تأتي الهدنة ويلوح، وعلى لسان وزراء خارجية أميركا وروسيا وبريطانيا، كلام عن التقسيم. هناك قوى سورية تعتاش من أفكار كهذه أيضاً، ولا سيما أن الحل العسكري لم يُسقط النظام، وبالتالي، أي حل سياسي ستخسر منه بالضرورة، ويأتي التقسيم ليعطيها سلطةً على بقعةٍ محددة. يشار في ذلك لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، ولما قيل عن سورية المفيدة، وهناك داعش وأيضاً مناطق أخرى. هذه “الثرثرات” ترفضها تركيا، اللاعب الأكبر في الساحة الإقليمية، وكذلك السعودية.

وإذا كانت إيران لم تمانع بذلك، فإن الروس، وعلى الرغم من تصريحهم عن الفيدرالية، فإن سياساتهم تنطلق من أن تدخلهم لصالح احتلال سورية، والهيمنة على قرارها الوطني، عقوداً متتالية. ويتأتى الدعم لحزب الاتحاد الديمقراطي في هذا الإطار، أي أن الفيدرالية لا تساوي التقسيم، بل تساوي توسيعاً أكبر في الحقوق للمناطق، ولا سيما للحزب الكردي المذكور، وبما يبقي التحكم الفعلي على سورية في العاصمة دمشق تحديداً، أي أن الفيدرالية تعطي حقوقاً أكبر للأقاليم، لكنها تُبقي كذلك المركز في دمشق.

تأتي الهدنة في سياق عملية التفاوض من أجل سورية دولةً بحدودها الراهنة. ترفض المعارضة التقسيم بالكامل، والقوى المسلحة الرافضة للنظام رافضة، في الوقت نفسه، داعش وحزب الاتحاد الديمقراطي “با يا دي”، وبالتالي هي قوى من أجل سورية بأكملها، وبموافقتها على الهدنة، والمشاركة في وفد التفاوض من قبل، فهي تصطف مع كل الأطراف الساعية نحو دولة لكل السوريين، وفق بنود فيينا وجنيف. 

رسالة المظاهرات أنها تتوافق مع أي جهدٍ يُنهي الحرب في سورية، وينهي وجود السلاح، ويوحد كل الجهود للخلاص من استخدام السلاح ضد الشعب، بدءاً بالنظام والمليشيات الداعمة له وإيران وحزب الله، وكذلك من سلاح داعش ودولتها، ومعها بقية الجهاديات، ولا سيما جبهة النصرة، وكذلك التخلص من انفلات العمل العسكري في سورية. وتدفع المظاهرات إلى توحيد (أو تنسيق) جهود الفصائل التي تمتلك حساً وطنياً، وتدعم التفاوض، وتقرّ بفشل الحل العسكري. 

تتجه السياسات الدولية والإقليمية نحو تثبيت الهدنة، والبدء بالتفاوض من ناحية. ومن ناحية أخرى، ستتوسع المظاهرات ما دامت الهدنة مستمرة وتؤيّد الهدنة. النظام وحده من خرق الهدنة، ومنذ اليوم الأول لها، وسيبحث دائماً عن طرق لإفشالها، فهو وعلى الرغم من فائدته العظمى من تثبيت الأطراف المتصارعة في أماكنها، فإنه الخاسر الأكبر، حالما تبدأ المفاوضات على الحكم الانتقالي والنظام المقبل.

إذاً، هناك إرادة دولية ومحلية للبدء بالحل السياسي، وقبالة ذلك، هناك النظام وإيران وحزب الله سيكونون من أكبر المتضرّرين منها. يريد التنسيق الأميركي الروسي تفادي حرب إقليمية واسعة، وتحديداً بعد التهديدات المتكررة لتركيا والسعودية أن التدخل الروسي يُمكّن إيران والنظام، ويشكل خطراً على الأمن الداخلي لهذه الدول. إذاً انتهت اللعبة الدولية والإقليمية على الأراضي السورية، وصار التنسيق الدولي يريد خلاصاً من الكارثة، والتي أصبحت تهدد بمشكلات إقليمية ودولية كبرى.

وهنا، نشير إلى أزمة اللاجئين في أوروبا، والتي أصبحت تشكل خطراً حقيقياً على دواخل تلك البلاد، وتستخدم في صعود اليمين العنصري في أوروبا والتخوف من اندلاع مشكلاتٍ اجتماعيةٍ بسببها هناك.
لا أريد أن أبدو متفائلاً، ولا سيما وأن خمس سنوات عجاف مضت من أعمار السوريين، وقد أفشل النظام عشرات المحاولات لإنهاء المأساة المستمرة، لكن جملة ما أشرنا إليه يوضح أن إغلاق المسرح السوري أصبح ضرورة. إذاً، الهدنة شرط للتفاوض، وبداية نحو الحل السياسي.

ما سيكون لاحقاً للتفاوض هو الموقف من الوجود الروسي في سورية، وكذلك الوجود الأميركي، ولا سيما من خلال الدعم الواسع لقوات سورية الديمقراطية، فهي قوات “أميركية” الآن، وإذا كانت المظاهرات تنديداً بالنظام وترحيباً بالهدنة، فهي ستكون ضد الوجود الروسي والأميركي في المرحلة اللاحقة.

لم تكن الثورة لتستبدل الاستبداد بالاحتلال، لكنها تمكر كما مكر الآخرون بها، وسربلوها بالدماء والتبعية، وبكل أشكال المأسي. والآن، حان وقت التغيير في سورية، وربما المواجهة ضد الاحتلال الخارجي. 

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى