لا أدري كيف نقرأ الإشارات الآتية من سوريا؟
نقرأ أي نصمت ونصغي ونتوقف عن إلقاء الدروس.
تعالوا نرى كيف يستعيد الشارع صوته ببطء من خلف حجاب الموت كي نفهم أن المسألة أكثر تعقيداً من افتراضات النظام أو داعش أو القوى الاقليمية والدولية، بأن الألم والأسى والدمار، حولت فكرة الحرية إلى ركام، وأخرجت الشعب السوري من المعادلة.
كان يكفي أن يكون هناك وقف جزئي لاطلاق النار، كي يعود الصوت السوري إلى الشوارع، معلناً حقيقة بسيطة وواضحة، بأن الشعب السوري لن يذلّ.
شيء يشبه الأعجوبة، ففي لحظة فاجأت الجميع، عاد صوت ابراهيم القاشوش ليرتفع فوق ركام المدن والبلدات، ومعه عاد صوت النضال من أجل الحرية كي يعلو على القمع والغدر والخيانة.
لا أريد تضخيم الأشياء، فبعد التهجير والتدمير، صارت العودة إلى براءة البدايات شبه مستحيلة. فالانتفاضة الشعبية السورية ووجهت بما لا قدرة لها على مواجهته وحيدة، اذ ترافق بطش النظام ووحشيته مع لا مبالاة دولية و»دعم» اقليمي، حوّل سوريا إلى ملعب للصراع، وحاول وأد ثورة شعبها وتحطيم الحلم الديموقراطي بنماذج استبدادية بديلة.
المظاهرات التي جرت، على صغر حجمها، تحمل دلالة بسيطة وواضحة، هي أن ما جرى في المشرق العربي منذ بدايات «الربيع العربي»، لا يمكن طيه أو القفز من فوقه. هناك انجاز صغير يتمثل في أن الناس تمردت وعرفت معنى أن تعبر وتستمع إلى صوتها. لذا لا قدرة لأحد على اعادتها إلى بيت الطاعة.
الثورة المضادة اتخذت اشكالاً عدة، من الانقلاب المصري، إلى التدمير السوري، إلى جنون البتروقراطيا الدموي والأصولي، إلى المشروع التوسعي الايراني والهوس العثماني واللؤم الاسرائيلي الأمريكي.
هكذا يعيش الشعب السوري ليله الطويل، سفّاحو سلطة البعث ومعتوهو «فقه الدم»، تناوبوا على اخضاع سوريا للاذلال، وشردوا الناس ودمروا المدن والقرى. ليل لا تضيئه سوى البراميل المتفجرة وطائرات الموت، وسفن اللاجئين الهاربة إلى بطن الحوت.
قد يكون الربيع العربي شتاءً دموياً مثلما كتب البعض، لكن دمويته كانت ضد الناس ومن أجل قهرهم وتحطيم ارادة الحياة فيهم.
تُرك السوريون لمصيرهم بين أيدي الوحوش التي تناتشت بلادهم، كل وحش اعتقد في نفسه القدرة على الاستئثار بالضحية، فدخل وحوش هذا الزمن العربي المُنقلِب في رقصة موت جماعية، سوف تطيح بهم في نهاية الأمر.
كان يكفي أن يسكت الرصاص والقذائف كي يرتفع الصوت من جديد: الشعب يريد اسقاط النظام، وكي تعود شعارات كفرنبل لتحتل مكانها في خريطة مقاومة الألم بالصبر والصمود والسخرية.
جاء الروس بطائراتهم كي يدعموا نظاماً يترنح، معتقدين هم ايضاً، بصفتهم آخر موجات الغزاة التي ضربت بلاد الشام، أنهم قادرون على تدجين شعب أرهقه الموت، لكن في لحظة وقف النار الجزئية، اكتشفوا أن لا شيء يستطيع حماية نظام لم يعد موجوداً الا كظل لنفسه الغاربة.
لا ادري ماذا سيستنتج سفاحو النظام وقتلة تنظيمات «فقه الدم» من هذه النصف هدنة؟ من المؤكد انهم اصيبوا بالذهول، لأنهم توقعوا شعباً من الأشباح وكتلاً بشرية هائمة تستجدي المعونات.
هل سيستنتجون أن الحرب وحدها هي وسيلتهم إلى البقاء؟
وهل كانت عقود استبداد حافظ الأسد سوى حروب لم تتوقف ضد الشعب السوري بمختلف فئاته؟
نظام كانت نقطة قوته الوحيدة أنه جلب «الاستقرار» إلى سوريا، فاذا بهذا الاستقرار المزعوم مجرد ستار يحجب حرباً دموية طاحنة دارت في الشوارع والبيوت والسجون، حطمت العظام مثلما حاولت تحطيم الارادات.
الانتفاضة الشعبية السورية كانت في أحد وجوهها محاولة لايقاف حرب الاستباحة ضد الشعب، وتحكّم المافيا وطبقة النهب بكل شيء، فلم يكن الجواب سوى اشعال حرب شاملة ضد الناس، ما لبثت أن توسعت محولة سوريا إلى أرض للخراب.
المظاهرات التي أعادت اليـــــنا شيئاً من الأمل ليست نهاية المطاف للأسف. فلو كان للمطاف نهاية لامتـــــنع الجيش السوري عن قتل الشـــــعب، مثلما يفعل أي جيش في العالم، الا اذا جرى تغليب منطق الميليشيا على منطق الدولة.
هذا المطاف مسار رهيب لا نعلم متى وكيف سيستقر على حال، والأثمان التي يدفعها الناس لا تحتمل، والأفق لا يزال مقفلاً.
لكن ما قالته لنا سوريا في الأيام القليلة الماضية هو أن الناس لن تذل حتى ولو حاصرها الذل من كل جانب، وأن على المهتمين بالشأن العام التوقف عن اهدار الكلمات واعطاء الدروس. وقفة مع متظاهر وعمل في مخيم للاجئين ومساعدة للنازحين وتماه مع دمعة طفل سوري، هي أشرف من كل كلام يدّعي معرفة وهو لا يعرف شيئاً.
قالت سوريا من خلف حجاب الأسى أن حريتها لن تموت، وأنا أصدقها.
المصدر : القدس العربي