مقالات

أحمد عبد اللاه – النيزك السوري وقيامة الديناصورات

منذ نشوء الجدَّة الكونية الأولى «ذرة الهيدروجين» البدائية بعد 380 ألف عام تقريباً من البغ بانغ الغامض بعد انفلات الطاقة العظيمة من مخبئها، مر الكون بمراحل بناء طويل امتدت بلايين السنين، حدثت خلالها تغييرات كبيرة وطفرات نوعية، حتى أتت الارض لتحبو عبر حقب التكوين نحو الإعداد الذاتي للإنسانية الأولى، فبدأ النور في عيني المخلوق الرائي والمدرك يستجلي معاني المكان والزمان..

وأصبحنا بعد اصطفاء عظيم مُنتج نهائي قابل للتطور، لكأن الكون أعد نفسه لميلاد الأرض، ولكأن الأرض أعدت نفسها لميلاد البشرية التي تتصارع اليوم من أجل السيادة، تماماً مثلما فعلت الديناصورات في الفترة بين نهاية العصر الترياسي حتى آخر العصر الطباشيري، قبل أن تُقصف الارض بنيزك ضخم وضع نهاية قسرية لسادة الكوكب وجبابرته، الديناصورات.

فناء الديناصورات كان في تلك «القيامة» فعلا كونيا منطقيا وضروريا، في سياق توجيه وضبط التطور البيولوجي على الأرض، حيث مهّد الطريق أمام أحياء وسلالات مختلفة تطورت وتجايلت وتفرعت، حتى بدأ الإنسان رحلته التاريخية ابتداء من سهول الصدع العظيم في الشرق الأفريقي، بعد أن وقف على قدميه وتطورت مراكز الإدراك والنطق عنده. تلك الإنجازات الكونية لم تكن فوضى خلاقة وإنما دقيقة ومتواصلة عبر حلقات تكمل بعضها بعضا.

قيامة مجازية لا تستوقفنا عند حدث طبيعي، حتى ندرك بأنه يمكننا سحبها فوق إنجازات البشر التدميرية التي تعاقبت في مراحل كثيرة وتتوجت في حربين عالميتين، لو قُدِّر أن تأتي ثالثتهما اليوم لحولت الأرض إلى سكون وصمت رهيب، ولا نعلم إن كان الإنسان بطرق مختلفة يسعى اليها كأداة يقف خلفها سر الأسرار العظيم بهدف إحداث طفرة جديدة تمهد نشوء حياة أخرى على الأرض، في سياق الناموس الكوني، حياة أخرى يصبح فيها الإنسان ربما أصغر حجماً وأكثر ذكاء وإدراكا وهدوءا وسلمية ولا يحتاج إلى دول وأمم متحدة أو منظمات حقوق الإنسان العوراء.

سوريا قلب الشرق الملتهب اليوم هي النيزك الافتراضي المرشح لضرب الأرض، يكبر ويتسارع بفعل جاذبيات الأجسام الكبيرة نحو ما يجعل من الأرض بصورة تدريجية عرضة للاختناق، مثلما اختنقت شموس الديناصورات بالغبار المتصاعد الذي أحدثه ارتطام النيزك، وحفّز البحار أن تطغى، ثم حول غلاف الأرض إلى صقيع عميم.

بدأ «الربيع العربي» بنشوة الشباب وشجاعتهم وعفويتهم، وسط ذهول العالم ودهشته حتى كاد أن يصبح مُلهما ونموذجا عابرا للقارات، ومثّل فرصة تاريخية لأن تثبت شعوب العرب بأنها ليست أخف وزناً ولا أقل توقا للحرية من شعوب العالم الحر. وكادت تُخرج احتقاناتها التاريخية عبر زمن قياسي للعبور نحو الاستقرار والنمو التدريجي وتؤسس لمستقبل يجمع بين الأصالة والحداثة، وتجربة تأخذ من ثمار الماضي والحاضر.. لكن الربيع توقف فجأة وذهبت الطفرة تأخذ منحى مختلفا تماماً.

بعد خمس سنوات من الأحداث الكبيرة التي اختطفت الشرق العربي إلى وجهة ما تزال غير معروفة، يستطيع المرء أن يكتشف أن هناك جسدا كبيرا ارتطم بهذه المنطقة، وما يزال غبار الخوف يتكاثف ويتمدد، ويحيل التساؤلات والاحتمالات إلى غموض مفزع، لأن هناك فاجعة سياسية وإنسانية حلّت بالفعل، وما تزال تتوسع ولا أفق لنهاية سريعة، رغم الهدنات وما يُحكى عن خطط السلام. ومن يرى سوريا مثلاً يعرف أن نموذج مدينة دريسدن الألمانية يكاد يعم مدن الشام الجميل بصورة أشد مأساوية.

الأمر لا يتوقف هنا، لأن العالم يرى في سوريا، مركز الأحداث الكبرى في الشرق الأوسط، محطة تأخذ العالم بعلاقاته وتوازناته ومصالحه إلى مفترق آخر، ليس أكثر أمانا، وهناك فرضيات مختلفة حول نتائج هذه الأحداث الكبيرة والتي ربما ستظهر تدريجياً على أوضاع منطقة الشرق الأوسط وإعادة تقسيمها وتقاسمها.

لكن الأمر ليس بهذا اليقين، فالانزلاق إلى مخاوف كبرى قد يسبق أي مخطط، ولنا في التاريخ أمثال وعبر، وكل شيء ما يزال ممكناً وممكناً جداً. ويعتقد كثير من الساسة والمفكرين أن الحرب إذا ما استدرجت إلى ميادينها قوى اقليمية متصارعة بشكل مباشر، وبحضور الديناصورات الكبرى امريكا وروسيا، فإن خطر اشتعال المنطقة بأسرها يصبح أقرب التوقعات.. ولن يصبح العالم بالطبع بعيدا عن النيران المستعرة، فحتى الديناصورات بأحجامهما المختلفة تصبح علاقاتها مرشحة لموجات من المخاطر المتتالية، لا أحد يعلم كيف، لكن العالم الذي يغذي الحرب هذه يصبح بشكل أو بآخر على حافة منحدر مظلم قد يقود إلى هزات تغير ظروف ما بعد الحرب الباردة وربما تقوده إلى كارثة حقيقة.

كل الحروب الكبيرة بدأت بتفاعلات متسلسلة، وعلى الرغم من تناغـــم مواقف الدول الكبيرة حول وضع سوريا، وربما حول مستقبل المنطقة، إلا أن طموحاتها لن تتوقف عند خط فاصل في هذه المرحلة، فإذا تمددت الحرب ستخلق معها ظروفا خطيرة تعيد حسابات الكبار وتخلق أحلافا متضادة ومتصادمة، وهذا ما سيجعل الحركة على حافة الهاوية نذيراً لقيامة الديناصورات.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى