يمكن القول، من دون مغالاة كبيرة، إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فاجأ العالم بقراره بدء سحب قواته العسكرية من سوريا.
تبدأ المفاجأة بالطبع من حليف بوتين المفترض، الرئيس السوري بشّار الأسد، الذي تبلّغ القرار باتصال هاتفيّ، وكانت التبريرات التي قدّمها نظام دمشق مثيرة للسخرية حول أن ما حصل «تم بالتنسيق الكامل بين الجانبين» في الوقت الذي كانت فيه مظاهرة بالسيّارات تجوب المدينة الساحلية طرطوس منددة بانسحاب الروس من المدينة، وكانت صفحات وسائل التواصل الاجتماعي للموالين تضج بمشاعر الوجوم والكرب أو بجمل التعزية الجوفاء من قبيل إنه «ما دام القائدان اتخذا القرار فلا بد أن يكون صائباً»!
والأغلب أن الأمر ينطبق أيضاً على الأمريكيين، وهم شركاء الروس في إدارة عملية المفاوضات بين النظام والمعارضة السوريين، والذين عبّروا في البداية عن شكّهم في انسحاب الروس متبعين ذلك باتصال هاتفي بين الرئيسين باراك أوباما وبوتين يطالب «بتركيز الجهد على التسوية السياسية».
والحقيقة أن انسحاب الروس، وهم من يفترض أن يكونوا خصوم الولايات المتحدة في المنطقة والعالم، لن يقع موقعاً حسناً على آذان الإدارة الأمريكية، فالاندفاعة الروسية في المنطقة أعفت واشنطن من التصرف، بدءاً من تعهد أوباما الشهير بضرب النظام إذا تجاوز «الخطّ الأحمر»، والذي تمّ طيّه من خلال الشراكة مع موسكو التي رتّبت اتفاق التخلّص من أسلحة النظام الكيميائية، وصولاً إلى سيطرة روسيا على الجوّ وهو ما برّر لواشنطن التحرّر من ضغوط تركيا والدول العربية الراغبة في إسقاط النظام بخصوص المنطقة الآمنة أو التدخّل العسكريّ والحظر الجوّي باعتبار كل ذلك نذرا لـ«حرب عالمية» لا تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية أن تخوضها بالنيابة عن «حلفائها»، او بإمكان تورطها عبر السماح لهم بالتصدّي للروس.
لكن ما الذي دفع روسيا أصلاً لاتخاذ هذا القرار المفاجئ؟
أول ما يكشف أسباب هذا القرار هو التوقيت الذي صدر فيه والذي تزامن مع بدء اجتماعات جنيف للتفاوض بين النظام والمعارضة، وسبقته تصريحات ناريّة لوزير الخارجية السوري وليد المعلم تعيد الأزمة السورية إلى مربعها الأول بالقول إن «بشار الأسد خطّ أحمر»، وأوضحت التصريحات الأمريكية والفرنسية التي تطالب الروس بإبلاغ الأسد أن رحيل الأسد بات أمرا متفقا عليه مع روسيا… وإيران، ما يحيل إلى علاقة مباشرة بين الانسحاب وتصريحات مسؤولي النظام.
وكانت قد سبقت ذلك تصريحات للأسد تحدث فيها عن رغبته بمواصلة الحرب حتى النهاية، وهو يبدو أمراً خارج السيناريو الروسيّ – الأمريكي، ولابد أن إجراءات أخرى قام بها النظام على الأرض ساهمت في نشوز النظام الكبير عن ذلك السيناريو.
هناك بالطبع أسباب أخرى يمكن الإشارة إليها، من قبيل نفقات الحرب الكبيرة، وتزايد الضغوط الجيو ـ استراتيجية على روسيا عبر الفضاء الأوراسي، وتآكل مصداقيتها في الدول الإسلامية، والعقوبات الأوروبية والأمريكية ضدها، والصراع المكتوم بين الحليفين الروسي والإيراني في مسائل اقتصادية (كعدم التزام إيران باتفاق لرفع أسعار النفط) وسياسية (في سوريا والعراق ولبنان) وعسكرية (موضوع تسليم صواريخ إس 300)، وهو ما أظهره ترحيب إيران بإعلان الانسحاب الروسي.
لكنّ ذلك كلّه لا يفسّر السرعة المفاجئة التي حصل فيها القرار والانسحاب بعد أن كانت روسيا، في مرحلة اشتداد عنفوانها، تتطلّع إلى التدخّل في العراق أيضاً، وصدرت عن مسؤوليها تصريحات إن مهمتها في سوريا مفتوحة… لينتهي كل ذلك بين يوم وليلة.
في مقابلته الأخيرة مع «ذي أتلانتيك» قدّم أوباما الصورة التالية عن بوتين قائلا إنه «مهذّب وصريح جدا» وأن لقاءاته به كانت مثل «اجتماعات البزنس»، ولكنّه عندما وصف روسيا قال إن وضعيتها في العالم «تضاءلت بشكل كبير».
الانسحاب الروسي، على ضوء هذا الوصف، هو جماع شخصيّة بوتين، مع وضعية روسيا. لعبة الروليت الروسية، هذه المرة، أصابت الأسد ولكن، «بتنسيق كامل بين الطرفين»!
المصدر : القدس العربي