في سورية، كانت المنظمات التأطيرية الملحقة بالمدارس الحكومية، كطلائع البعث أو شبيبة الثورة، تنظّم رحلات “ترفيهية” إلى عدة مواقع أثرية، أو مراكز إنتاجية، أو أوابد ثورية، من سدود ومعامل ومزارع إنتاجية، شيدت في ظل الرعاية الحكيمة أو ما قبلها، لا يهم، فالنسب والانتساب دائماً واحد، ولا يوجد تاريخ يسبق تاريخ وصول هذه الرعاية الحكيمة إلى الحكم.
وكانت هذه الرحلات فرصة مناسبة يستغلّها طرفا المعادلة: الأستاذ والتلميذ. فالأستاذ، وهو غالباً أيضاً ممن تعرّض إلى إفقارٍ معرفي وتأطير عقائدي وابتعاد منهجي عن المبادئ الأساسية للعمليتين التربوية والتدريسية (إلا من رحم ربي، وإلا من اجتهد بشكل فردي)، فهو يجد في هذه الرحلات فرصةً للخروج من رقابة المدير الأمنية أكثر منها التربوية أو العلمية. كما أنها تتيح له غالباً التريّض عن هموم المُعاش من فقرٍ وإجحافٍ في المعَاش، لمن تتغنّى الشعارات بوصفهم مربين للأجيال. وفي الختام، ربما تتيح له بعض القروش من خلال أمر المهمة أو فرض بعض المبالغ على التلاميذ والتلاعب بتسجيلها.
أما التلميذ، فهي فرصة للعب والخروج من أسوار المدرسة/ الحصن، المبنية على نمطٍ موحّدٍ، في جميع أصقاع البلاد. وهي تتميّز بأنها لا تحتوي من الترفيه إلا إمكانية التكسير والتخريب لكل ملاعبها الرياضية، وقلع النادر من أشجارها. كما أنها فرصةٌ يتم خلالها غالباً غضُّ الطرف عن التجاوزات الكلامية، كما العضلية الموجهة ضد صغار السن أو ضعاف الحال.
الرحلات المدرسية إذاً هي تنفيس مفيدٌ لا يحمل، في جنباته، أية أهدافٍ تعليمية أو تنويرية أو معرفية، إلا فيما ندر. وكان الإهمال والتسيب وانعدام المسؤولية من أبرز مظاهرها. وبالتالي، فالتعامل مع الأماكن التي تتم زيارتها مرتبطٌ بشكل وثيق بهذه الخاصية. ويتم التمييز بين الحدائق العامة وبين المصانع وبين المواقع الأثرية. ففي الحدائق، يتناوب التلاميذ على لعب دور الجراد في اقتطاف ما لذّ وطاب، كما في نشر الفضلات ذات اليمين وذات اليسار. أما في المصانع، ونتيجة وجود عاملين كثيرين، فمن الصعب نشر الفوضى كثيراً. لذلك، تعتبر من الأماكن غير المحببة. أما في المواقع الأثرية، فهنا الطامة الكبرى، حيث يُترك التلاميذ على عواهنهم بدون حسيب ولا رقيب، ليعبثوا فساداً في أرضٍ تحمل طبقاتٍ متراصفةً من الحِقب التاريخية التي عبرت بالبلاد.
لم تكن لدى القائمين على هذه الرحلات، إذاً، أية أهداف محددة، وبالتالي، المواقع الأثرية، كما هي مباحة لمن يحمل مسؤولية التنقيب والسرقة من غير الاختصاصيين، لكن من المحميين، فهي أيضاً، مباحةٌ نسبياً للعبث الطفولي والإيذاء غير المتعمد من خلال اللعب وكتابة الأسماء والتعابير، المشين منها أو العاطفي، على جدرانها. وربما أيضاً تكسير بعض اللقى المتاحة والبارزة للعيان.
على بعد 30 كيلومتراً غرب مدينة حلب الشهيدة، كثيراً ما زار تلاميذها موقعاً أثرياً من النادر أن علموا بتاريخه وبأهميته، كدير وكنيسة سمعان العمودي، المبني سنة 490 ميلادية. موقع أخّاذ وأوابد غنية ورمزية حضارية، ثمينة وفسيفساء ملوّنة، من شدة سرقتها والحك فيها واقتلاعها، طمرها بعض حراسها بالتراب.
وقد أسرّ لي بعضهم بأنهم يترهبون وصول باصات المدارس، لما يعرفونه من انعدام مسؤولية المشرفين، و”ملعنة” التلاميذ الذين يحتاجون متنفساً ومكاناً يفرغون فيه شحنات من القهر والقمع وانعدام التوجيه. وغالباً، لا أحد يشرح المكان، أو يوضح أهمية العناية به، والتنبيه على احترام أوابده. فتبدأ حملة التخريب والكتابة على الجدران والركض في الجنبات ومحاولة اقتلاع ما تيسّر. يتم ذلك في ظل درجةٍ عاليةٍ من “البلادة” لدى المشرفين على الرحلة الذين غالباً ما يمكثون في مدخل الموقع، لاحتساء الشاي أو النوم.
بالمفهوم السوسيولوجي، الموقع هو مكان عام، يتعامل معه الإنسان المحروم من التعبير، طفلاً وراشداً وكهلاً، بازدراء أو بالرغبة في الانتقام للرمزية الرسمية له، ولارتباطه بالجهة الحكومية التي لا تعتبر “خدمةً”، بل هي جهة تقمع أو تسيطر أو توجّه أو تستفيد من دون إفادة عامة. وبالتالي، نشأت العلاقة الصدامية بين أجيال متعاقبة مع المجال العام، بما فيه الآثار، على هذا المبدأ. وكان بعض الاهتمام مرتبطاً بالدخل الممكن تحصيله، سياحياً أو تنقيباً، من هذه المواقع لسكان جوارها أكثر من كونه مرتبطاً برمزيتها التاريخية، أو قيمتها الحضارية. وانحصر الأمر بقليلٍ من أصدقاء الآثار النادرين، كما بالعاملين الأجانب على التنقيب.
قبل أيام، تعرّض الموقع للقصف الجوي، وتم تحويل ما بقى من عمود القديس سمعان، رمز المكان، إلى فتات. ألم السوريين لم يعد يُقاس، فلقد تكسّرت النصال على النصال. دانت اليونسكو بخجل شديد ما حصل. ولم يلتفت الإعلام الغربي لهذا التدمير، لأنه لم يتم على أيدي الإرهابيين المعتمدين.
المصدر : العربي الجديد