لم أكن أتصور يوما أن أنظر إلى خريطة العالم العربي لأرى حدودنا مرسومة بالدم، من بغداد إلى دمشق إلى طرابلس الغرب والشرق. خيط من الدماء يرسم حدودنا في المكان، ويحدد لونا لنا في هذا الزمان يشكل صورتنا في نفوسنا، وفي عقول العالم من حولنا، ومع ذلك لا أعتقد أن الملاحظة جديرة بالتأمل ذاته الذي تحتاجه منا ظاهرة أخرى مصاحبة، وهي أن الكتابة عن الدم وعن القتل لم تعد مثيرة.
هل من العدل أن نسأل من المسؤول عن صناعة خيال القبح هذا، هل هي ثقافتنا؟ أم سياساتنا؟ أم بعض إعلامنا الذي يروج لهذه الصور بشكل يومي لا يراعي حتى ساعات مشاهدة الأطفال للتلفزة؟
ليس لديَّ شك أن من بين نخبنا التي في موقع القرار من يتمنون لأبنائهم وبناتهم حياة سوية نفسيا، بعيدا عن وشم ترسمه على أجسادهم خريطة الدم بواقعها الحقيقي وبصورتها المتلفزة. ولكن ما الذي يفعلونه لتحقيق ذلك؟
على شاشات التلفزيون أصبح منظر جثة هامدة على الرصيف أكثر من عادي، نتابعه في المساء ونحن نأكل عشاءنا. أصبحنا نحتاج إلى أكثر من عشر جثث على الأقل، حتى نسأل: ما القصة؟ من هؤلاء؟
معظم الشاشات اليوم، وكذلك الصحف، إما تملكها حكومات أو أصحاب تجارة يعتمدون في الأساس على الحكومات في مكاسبهم، تراهم في جلسات اجتماعية من ذوي القلوب الرقيقة، الذين يشاركوننا الإحساس بالمرارة لما وصل إليه حالنا من قسوة غير مدركين أن مفاتيح الحل بأيديهم.
هل الحل في أن يلقي مسؤولونا خطبا عن إعادة ترسيم الملامح الثقافية لمجتمعاتنا؟ أم الحل في تقديم القدوة لأبنائنا وبناتنا؟ أم إن الحل في تبني سياسات محددة لإنهاء هذه الحالة من التبلد تجاه خريطة الدم، سياسات ربما يصل بعضها للتعامل مع جذور المشكلة ذاتها؟
القدوة لا شك أساسية، وعلى المسؤول السياسي أن يكون لديه الشجاعة لتصحيح مسارنا الثقافي حتى لو كان هذا ضد التيار، ولن ينقص هذا من الهيبة شيئا. مثل كثيرين لفتني في الأيام الماضية ذلك الفيديو الذي ترى فيه الرئيس الأمريكي باراك أوباما وزوجته وبنتيه يخدمون الصائمين في البيت الأبيض بأنفسهم في الإفطار السنوي. رئيس الدولة العظمى الوحيدة بيده قفازات بيض، وكذلك زوجته وبنتاه يقدمون وجبة الإفطار بأنفسهم، لا يشرفونها بالحضور، بل يخدمون، وهنا يكون حرفيا سيد القوم خادمهم. يحدث هذا في الوقت الذي تتزايد فيه تيارات العداء والكراهية تجاه أي مظهر عربي أو إسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية. الرئيس يقف ضد هذا التيار ولا يعنيه ما سيقال عنه في المجتمع والإعلام. الرئيس يقدم القدوة والنموذج، ويصرُّ على أن أمريكا مجتمع متعدد، وأن المسلمين جزء لا يتجزأ من النسيج الأمريكي.
لا أطالب مسؤولين بخدمة المواطنين من ناحية تقديم الطعام، لكني أطالبهم بتقديم النموذج والقدوة للأجيال المقبلة، عن معنى أن تكون عربيا.
مطلوب من مسؤولينا بشكل عاجل، التفكير في إيجاد وسيلة لسياسات تعليمية جديدة مثلا، فتعليمنا أسيء استغلاله.
لم تعد أسئلة التعليم كما يتناولها العوام من نوعية ربط التعليم بمتطلبات السوق من عدمه؛ فتلك أسئلة يسألها التجار وأصحاب المصانع، أما أسئلة الساسة ممن يرون الأوطان بناء متكاملا ترسم ملامحه الأجيال، جيلا بعد جيل، فيجب أن تكون أسئلتهم أكثر عمقا ونبلا.
مؤسساتنا الدينية عليها واجب القيادة الروحية وتوسيع الآفاق المعرفية لدى معتنقي الديانات المختلفة في مجتمعاتنا، على هذه المؤسسات أن تدرك الدور المنوط بها ولا تتعدى على أدوار غيرها؛ إذ إن آفة مجتمعاتنا الأولى هي أن معظمنا يفشل في تأدية دوره؛ لأنه مشغول بتأدية دور غيره، رجل السياسة يفشل في السياسة؛ لأنه يريد أن يكون رجل دين، ورجل الدين يفشل في أن يكون قدوة روحية لأنه يريد أن يكون صانع سياسة.
خريطة الدم التي ترسم حدود بلداننا لا تحتاج إلى حل اختزالي مبسط يرى الأزمة في «داعش» أو المتطرفين أو غيرهما؛ فتلك الظواهر هي أعراض لأمراض وليست الأمراض ذاتها. لا بد من أن نأخذ نفسا عميقا، ونفكر مليا في مساحة الأزمة وعمقها.
خريطة الدم لا يمكن محوها إلا بلغة جديدة للحديث عن العطب الذي أصاب مجتمعاتنا، وهو عطب جدّ خطير، أبعاده مركبة وكل منا يتحمل الجزء الخاص به بشجاعة وجرأة.
أنسنة العالم العربي تبدأ بالقدوة التي وصلت إليها قيادات في بلدان أخرى أكثر تقدما، ففيديو أوباما الذي يخدم الصائمين ليس مجرد دعاية، رغم أنها بالقطع دعاية ناجحة، ولكن لأن القائد يدرك في قرارة وعمق نفسه أنه مواطن مثله مثل غيره، فقط هو يقوم بخدمة عامة قد تنتهي مدتها في أي لحظة.
المساواة بين المواطنين أساسها سيادة القانون وليس الغلبة السياسية من مليشيات وحشد شعبي، يستقوي ويفرض سيطرته بقوة السلاح.
كيف لنا وديننا ينشد العدل أن نكون من دون مجتمعات الدنيا أبعدها عن العدل. كيف يغيب القانون عندنا الذي هو أداة العدل الأولى؟ وكيف ينحرف المزاج القضائي ليصبح الفصل بين الناس في الخصومة، أمرا مربوطا بمن واسطته أكبر.
خريطة الدم تتسع عندما يميل ميزان العدالة باتجاه المحسوبية وأهل الحظوة، يقول نبينا عليه أفضل الصلاة والتسليم: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»، فكيف يكون ديننا هكذا، وحالنا كما ترى؟
عندما كنت صغيرا، كنت أحلم بعالم هادئ مفتوحة نوافذه ومشرعة أبوابه، كما يحلم صغارنا اليوم بأنه لن يقف بينهم وبين طموحاتهم سوى العمل الجاد، وها أنذا بلغت الخمسين من العمر، وكل ما أراه من حولي هي خريطة الدم. هل آن لنا أن ننسى ما فشلنا فيه، ولا نغرق في اجترار مأساتنا ولماذا وصلنا إلى هنا، ونفكر في بناء مجتمع أفضل لأبنائنا، بدلا من تركهم نهبا لحياة عشوائية في المسكن وفي العقول؟
أما آن لخريطة الدم أن تنمحي لترسم السعادة حدود أوطاننا؟ أتمنى هذا في الأيام الأخيرة في رمضان، التي يستجاب فيها الدعاء وتتحقق فيها الأمنيات. ولكن تبقى المسؤولية الكبرى مسؤوليتنا تجاه أوطاننا، وكل عام وأنتم بخير.
المصدر : الشرق الأوسط