تدهور حادّ تشهده العلاقات التركية – الأوروبية، بعد سلسلة من الفعل وردود الفعل تطوّرت في شكل متسارع خلال أيام، على خلفية مواقف دولٍ أوروبية عدّة من الحملات الدعائية التي يقوم بها المسؤولون الأتراك في أوساط الجاليات التركية على أراضيها، لحشد الدعم وحضّ الناخبين على التصويت لمصلحة التعديلات على الدستور التركي، في الاستفتاء المقرر إجراؤه منتصف الشهر المقبل.
يدرك المسؤولون الأوروبيون حجم الانقسام السياسي وأجواء الاحتقان داخل تركيا، وهم إذ يقيّدون نشاطات أنقرة المتعلقة بالدعاية السياسية في بلدانهم، فهم يتجنبون انتقال مشكلات تركيا السياسية، وتجاذبات وضعها الداخلي، إلى أوساط مواطنيهم ذوي الأصول التركية، ما قد يعني تكريس الانتماء التركي لدى حاملي الجنسية المزدوجة على حساب مواطنيتهم في بلدهم الأوروبي واندماجهم فيه. إلى ذلك، تضمّ الجاليات التركية في أوروبا التنوع التركي نفسه، أي أنّ نتائج سلبية قد تترتّب على نقل الانقسامات التركية الداخلية حول عدد من القضايا الإشكالية واستنساخها في أوساط أتراك أوروبا، كمسألة الحرّيات وحقوق الإنسان، والقضية الكردية، فضلاً عن التعديلات الدستورية موضوع الاستفتاء نفسه.
من خلال تعديل الدستور، يريد أردوغان توسيع صلاحياته بتحويل تركيا إلى النظام الرئاسي. هذا الأمر ليس محلّ إجماعٍ في البلاد، حيث تتصاعد مخاوف المعارضة التركية من جنوحه نحو الديكتاتورية، لا سيما بعد فشل المحاولة الانقلابية الهزلية صيف العام الماضي، وما تبعها من إجراءات تعسّفية وقمع للحرّيات وتشديد القبضة الأمنية. ولضمان إقرار التعديلات في الاستفتاء، سيحتاج أردوغان إلى أصوات الأتراك المقيمين في أوروبا، والبالغ عددهم قرابة خمسة ملايين شخص، منهم ثلاثة ملايين في ألمانيا وحدها، صوّت نصفهم لمصلحة حزبه في الانتخابات البرلمانية عام 2015، وهو يعمل بشتّى السبل لكسب أصواتهم في الاستفتاء المقبل.
إن التدقيق في مجريات الأزمة الراهنة وكيفية تفاعلها، يكشف ضرباً من العنجهيّة في طريقة تعامل أردوغان معها، دفع الأمور نحو مزيد من التصعيد. القصة بدأت بعد أن تحفّظت الحكومة الألمانية على تجمعات انتخابية تركية كان من المزمع عقدها في مدن ألمانية، ورفضت إعطاء التصاريح اللازمة لذلك، فوجّه أردوغان كلاماً لاذعاً للحكومة الألمانية إذ شبّه سلوكها بـ «الممارسات النازية»، فيما اكتفى الألمان بالتعبير رسميّاً عن استيائهم من هذه التصريحات. لكنّ كرة الأزمة تدحرجت من ألمانيا إلى هولندا التي يقيم فيها نحو نصف مليون تركي، لأن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، استبق زيارته المزمعة إليها بالتحذير من عواقب إلغاء تجمع كان ينوي حضوره في روتردام الهولندية، حيث أنه لم يقبل بشرط الهولنديين إجراء لقاءاته داخل القنصلية التركية فقط، أي من دون تجمعات شعبية حاشدة لاعتبارات أمنية. لم يرُقْ تهديد الوزير التركي للحكومة الهولندية، فأعلنت منع طائرته من الهبوط على أراضيها، ما دفع الأتراك إلى إبلاغ السفير الهولندي بأنه غير مرغوب فيه.
أعاد أردوغان إطلاق صفات «الفاشية والنازية» على الهولنديين هذه المرة، وعلى رغم التوتر الحاصل أوعز لوزيرة شؤون الأسرة في حكومته بالتوجه من دوسلدورف الألمانية إلى قنصلية بلادها في روتردام ردّاً على إلغاء زيارة أوغلو ما زاد الطين بلّة. فقد اعترض عناصر الشرطة الهولندية طريقها وأبلغوها بوجوب مغادرة هولندا لتعود أدراجها إلى ألمانيا. ومن هناك وفد عدد من الأتراك ليشاركوا مواطنيهم المتظاهرين في هولندا احتجاجاً على تلك الإجراءات، لكنّ الشرطة أساءت التصرّف وفرّقتهم بالقوة. وعلى رغم تصريحات رئيس الوزراء الهولندي مارك روته حول ضرورة التهدئة، وأنه «سيفعل كل شيء لنزع فتيل الأزمة»، وإعرابه عن رغبة بلاده في أن تكون الطرف الأكثر تعقّلاً، وتأكيد رفضه الابتزاز، فإن أردوغان وكبار المسؤولين الأتراك لم يتوقّفوا عن التصريحات النارية والمواقف التصعيدية، وإطلاق التهديد والوعيد ضد هولندا، عبر البيانات الرسمية واللقاءات الصحافية والخطابات الجماهيرية، مؤكّدين أنهاّ «ستدفع الثمن باهظاً حتى لو اعتذرت»، ودعا أردوغان الهيئات الدولية لفرض عقوبات عليها، في حين وصفها أوغلو بأنها «عاصمة الفاشية».
تبدو الأمور ماضية نحو مزيد من التعقيد، فالأتراك هدّدوا باستخدام «ورقة اللاجئين»، التي طالما ابتزّ أردوغان الأوروبيين بها، إذ لمح وزير خارجيته إلى إمكانية إعادة النظر في «اتفاقية اللاجئين» مع الاتحاد الأوروبي. ومعلومٌ أن تركيا تقاضت ثلاثة بلايين يورو بموجب تلك الاتفاقية مقابل الحدّ من تدفّق اللاجئين، ما أدّى إلى تقلّص عدد اللاجئين والمهاجرين القادمين إلى أوروبا عبر الحدود التركية، من 850 ألفاً عام 2015 إلى 173 ألفاً عام 2016.
ليست المرّة الأولى التي يصعّد فيها أردوغان وحكومته خطابهم تجاه الأوروبيين ويستخفّون بهم، وهذا جرى قبل نحو عامين. ففي نيسان (أبريل) 2015، وبالتزامن مع الذكرى المئوية لمذابح الأرمن، تبنّى البرلمان الأوروبي قراراً يطالب تركيا بالاعتراف بأن المذبحة التي قام بها العثمانيون وراح ضحيتها نحو مليون ونصف مليون إنسان أرمني، كانت «إبادة جماعية». حينها، استبق أردوغان تصويت البرلمان الأوروبي على القرار بتصريح قال فيه: «أياً كان القرار الذي سيتخذه البرلمان الأوروبي في شأن مزاعم الإبادة الجماعية للأرمن فإنه سيدخل من أذن ويخرج من الأخرى»، وعلّقت الخارجية التركية على القرار رسميّاً بعد صدوره فوصفته بأنه «مثير للسخرية»، واتّهمت البرلمان الأوروبي بـ «التعصب اللغوي والديني».
وكما في الأمس كذلك اليوم، يعاود أردوغان توظيف خلافه مع الدول الأوروبية لاستثارة مشاعر الجمهور واستمالته بدغدغة المشاعر الدينية والقومية، فيعتبر ما جرى «عداءً للإسلام» وأنه «تطوّر مرتبط بالإسلاموفوبيا ويكشف الوجه الحقيقي للغرب»، فضلاً عن «العداء للأتراك» أنفسهم. المفارقة الأكبر، أنه يستغلّ الأزمة الراهنة وسوء تصرّف الشرطة الهولندية تحديداً، ليحاضر في الديموقراطية وحقوق الإنسان، وهو الذي مسح بهما الأرض في بلاده بذريعة الانقلاب الهزلي الفاشل، فاعتقل الآلاف وكمّم الأفواه، مع مواصلة سياساته الفاشية ضدّ الأكراد وحربه المفتوحة عليهم.
المصدر : الحياة