تواجه إيران من جديد حملة أميركية مركزة تستهدف تهذيب سلوكها في المنطقة، وإعادة صياغة أدوارها إقليمياً ودولياً، ما يجعل إيران أمام خيارات صعبة وضيقة بين المواجهة بالمثل، أو التعاطي الإيجابي مع الإرادة الأميركية التي صاغت مطالبها عبر النقاط الإثنتي عشر، التي أعلنها وزير الخارجية مايك بومبيو يوم 21 أيار (مايو)، أو اللجوء إلى المراوغة لتأجيل الصدام الحتمي، على أمل أن يستعيد حلفاء الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما مواقعهم في تسيير القرار داخل أروقة المؤسسات الأميركية، لتعود أيام العسل البيني الأميركي- الإيراني تتصدر عناوين الصحف في أميركا، من دون أن تغير إيران خطابها العدائي الإعلامي تجاهها: «الموت لأميركا»، وضمن هذه الخيارات الثلاثة تبقى إيران تدور في عجلة الانهيار السياسي والاقتصادي في آن معاً.
وبينما لا يمكن أن تختبئ أولويات إسرائيل من جملة المطالب الأميركية التي فصلها بومبيو، حيث يعتبر البرنامج النووي الإيراني، وتطوير الصواريخ البالستية، ودعم حزب الله في لبنان وسورية، على قائمة التهديدات لأمن الحليف الإسرائيلي، فإنه في ذات الوقت يعد ضمن تهديدات إيران للمنطقة العربية برمتها، وكذلك للسلم والأمن الدوليين، حيث تقوم أذرعها الطائفية بزعزعة استقرار منطقة تلو الأخرى، من لبنان إلى العراق فاليمن حتى سورية، ما يجعل من المواجهة الأميركية معها مصلحة مشتركة يمكن أن تحسر أدوار إيران التخريبية، وتقلل من سطوة العنف الطائفي الذي تنشره عبر عمليات التغيير الديموغرافي والمذهبي في أماكن توسعها الاحتلالي، والتي تعتبر سورية اليوم أحد أبرز بؤر هذا الحراك العدائي في المنطقة. وعلى ذلك فإن عدم سماح الولايات المتحدة لإيران بالسيطرة على منطقة الشرق الأوسط يتطلب الانتقال من حيز التهديد والمطالبة إلى موقع الفعل والتنفيذ، وهو الذي يبدو حتى اللحظة ملفاً إسرائيلياً مغلقاً، على رغم أن الضربات الاستعراضية الأميركية البريطانية الفرنسية لمواقع إيرانية في سورية 14 نيسان (أبريل) الماضي لم تسفر عن أي ضحايا لها.
إن التعاطي مع الخطر الإيراني وفق شقين: أولاً، وجوده كقوة احتلال في دول العراق وسورية واليمن وعبر دعمها لمنظمات كـ «حزب الله» الذي صنفته الخارجية الأميركية «إرهابياً»، وثانياً، خطرها على الأمن والسلم الدوليين اللذين يهددهما برنامجها النووي وما يرافقه من استخدامات صاروخية من شأنها أن تشكل تهديداً لأمن دول حليفة لأميركا في مقدمتها إسرائيل الدولة التي تنافس إيران في برنامجها النووي والعدواني التوسعي في المنطقة، ما يعني أن المعطيين الأساسيين رغم اختلافهما مضموناً إلا أنهما يشكلان ما يمكن تسميته النشاط العدواني الطائفي التوسعي في منطقة الشرق الأوسط بالاعتماد على قوة السلاح النووي المحظور دولياً.
استطاعت إيران خلال عقدين من الزمن أن تبلور صراعاً جديداً في منطقتنا العربية منذ أن سمحت لها الولايات المتحدة الأميركية بدخول العراق كقوة احتلال ثقافية ودينية واقتصادية وسياسية، في محاولة أميركية لتغيير وجه عراق «صدام حسين» ما هيأ لها فرصة التوغل مجتمعياً والتمدد باتجاه الدول المحيطة لإثارة النعرات الطائفية والاختلافات القومية، لتحويل الصراع من عربي- إسرائيلي إلى صراع سني- شيعي، وهو ما يدل على دور وظيفي منوط بها من ذات الجهة التي تحاربها اليوم معلنة انتهاء هذا الدور شرق أوسطياً.
ويأتي الوجود الإيراني في سورية وخلط الأوراق الانتخابية في لبنان والتمسك بدور تخريبي في اليمن، والتهديدات المتتالية لأمن واستقرار الخليج العربي، ضمن مسار الخيارات المتاحة لإيران لمواجهة الرغبة الأميركية في خطوة استباقية منها للتفاوض على ملف مقابل آخر، حيث تعتبر إيران أن افتعال حربها في اليمن وإطالة الأزمة عامل تفوق في المفاوضات مع أميركا وحلفائها العرب في الملف السوري، حيث تدرك خطورة الموقع الجغرافي لقواتها في تماسها المباشر مع إسرائيل من جهة ومع «حزب الله» الإرهابي الذي تموله إيران من جهة ثانية، ما يفرض على الإدارة الأميركية المعنية بأمن حلفائها اتخاذ مواقف حاسمة عبر عنها وزير خارجيتها بالنقاط الـ١٢، لكنه لم يحدد ما هي وسائل الضغط التي يمكن لإدارته استخدامها لإجبار إيران على الخضوع لوقف برنامجها النووي والصاروخي، وانسحابها من سورية مع جميع القوات التي تخضع لأوامرها (ميليشيا حزب الله والكتائب الطائفية منها زينبيون وفاطميون وغيرهم)، وكذلك وقف دعمها لحزب الله لبنانياً، أي ترك فرصة للحياة المدنية غير المسلحة أن تسود الواقع اللبناني الذي بات في خطر بعد الانتخابات النيابية «المسلحة» التي فاز بمعظم مقاعدها حزب الله.
لا يعني ما ذكره «بومبيو» أن هذه الاستراتيجية قيد التنفيذ العاجل، بقدر ما تعني أنها طموحات أميركية أو قراءة أميركية لواقع المنطقة الذي تريده ضامناً وكفيلا لأمن إسرائيل كأولوية، بعد أن استتب لها نقل السفارة الأميركية إلى القدس، كإجراء تعسفي بحق القضية الفلسطينية، وهو ما لا يمكن التغاضي عنه ضمن القراءة الشاملة لاستراتيجية أميركا في المنطقة، إلا أنه في الوقت ذاته يمكن التعاطي مع إيجابيات وضرورات خروج إيران من محيطنا العربي، للعودة إلى مفاوضات عربية- إسرائيلية تحت الرعاية الأممية غير المنحازة.
وضمن إجراءات إيران الاستباقية لاستراتيجية أميركا نحوها، كان انخراطها في التحالف الروسي- التركي «مسار آستانة» لإنقاذ مصالحها داخل سورية عبر جملة اتفاقيات، تمكن النظام من استرجاع نفوذه على المناطق الاستراتيجية التي تقع نشاطات إيران الاقتصادية على خارطتها، ما يبرر هنا حالة الاستهجان الواسع لانخراط المعارضة المحسوبة على تركيا في مسار أحد إنجازاته ضمان مصلحة إيران، تماشياً مع المصلحة التركية دون دراسة تبعات ذلك على واقع الثورة وأوراقها التفاوضية.
وبالقدر الذي كانت فيه إيران تحمي النظام السوري من السقوط المدوي له قبل تدخلها، بكامل أسلحتها وجندها الذين يناهز عددهم في سوريا سبعين ألف مقاتل، فقد كان وجود إيران في سورية يمنحها فرصة البقاء على طاولة التفاوض الدولي كما أسهم بتسريع عقد الاتفاق النووي (الخمسة زائد واحد) الذي لم تستطع الحفاظ على توافق شركائها به، بسبب أطماعها التوسعية والنووية، ما جعلها اليوم تستفز الولايات المتحدة وحلفاءها، إلا أن هذا لا يعني استسلام إيران الكامل للشروط المهينة والعقوبات الضاغطة، في حال بقي الصراع معها خارج حدودها وبعيداً عن التهديدات المباشرة لنظام الولي الفقيه، ما يعني أن الضربات الإسرائيلية على مواقعها في سوريا هو في حقيقته ما سعت إليه إيران منذ البداية، مستخدمة بذلك الأراضي السورية كساحة تحاصر حصارها داخلها، من دون أن تنال هذه الحرب من وجودها على خارطة دول السلاح النووي، حيث رهانها على خبرة عقود سابقة من العقوبات الأميركية والأوروبية، التي أزاحت معظمها من خلال الاتفاق وزرعت بذور الخلاف الأميركي- الأوربي حول ضروراته ومبرراته.
يستطيع اليوم النظام السوري التلاعب بأوراق إيران لحساب روسيا، لكنه لن يستطيع سد ثغرات خروجها من سوريا إلا بالخضوع لتسوية سياسية عاجلة يقبلها أطراف الصراع والنفوذ، بالرعاية الأميركية- الروسية، وما خلا ذلك يبقى مراهنة على الفوضى «غير الخلاقة» لإنتاج النظام من جديد، كما هو الحال في انقلاب مسار آستانة على الثورة والحل العادل.
المصدر : الحياة