إذا كانوا كلهم “شارلي”، فليس أقل من أن نكون جميعاً هبة عبد الغني، أول شهيدة سورية للعاصفة الثلجية في مخيمات النزوح من إرهاب بشار الأسد.
ونكون رفح المصرية التي تعمل سلطة الانقلاب على إزالتها من الوجود، بتدمير مبانيها وتشريد أهاليها وذبح الحياة فيها، قرباناً للمنطقة العازلة التي تحلم بها “إسرائيل”، وتفرضها واشنطن استحقاقاً لا بد من أدائه، قبل أن تمنح جنرال مصر علامة النجاح في امتحان مؤتمر المنح مارس/آذار المقبل.
ونكون ذلك الطفل الفلسطيني الذي قتلته ثلوج العاصفة “زينة” في مخيم اللاجئين في طولكرم، ولم تكلف وكالات الأنباء نفسها عناء ذكر اسمه، شهيداً لبرودة الضمير العالمي.
ونكون، أيضا، فتاة شبرا التي افترسها شرطيان اغتصاباً في سيارة رسمية، وأثبت الطب الشرعي الجريمة، بعد تحليل عينة من السائل المنوي على ملابس الضحية، وتبين أنها متطابقة مع عينة أحد رجلي الأمن المتهمين (مع الاعتذار للرجولة)، وعلى الرغم من ذلك، قرر القضاء إخلاء سبيل مرتكبي الجريمة.
فلنتوقف عن الاستسلام لمناحة “شارلي” التي تخفي وراءها أكثر مما تظهر بكثير، وتتحول، بمرور الوقت، إلى فرصة استثمارية صهيونية قلباً وقالباً، حتى يخال المتابع أن كل هؤلاء الزعماء والقادة الذين هرولوا إلى المبكى الباريسي إنما جرى استخدامهم، فيما خدم بعضهم طوعاً، في تظاهرة يقودها بنيامين نتنياهو ضد “الإسلام المتطرف عدوه وعدو حلفائه المشترك”.
لنخرج، إذن، من سرادق العزاء الفرانكفوني، ونتذكر قائمة همومنا وقضايانا الحقيقية، خصوصاً بعد أن قررت فرنسا مواراة قضية الاعتداء على المجلة الساخرة الثرى، في تعجل لافت لا يترك فرصة للتحقيق في الجريمة وسبر أغوارها، وكأنها اكتفت باستعمالها سطحياً لصناعة حشد دولي، لا يختلف عن ذلك الذي استقال بسببه وزير دفاع فرنسا، جان بيير شوفمنان، في الحرب الأميركية الأولى لتدمير العراق، مطلع تسعينيات القرن الماضي، والذي سمّاه في كتابه الوثيقة “الدرس الافتتاحي للنظام العالمي الجديد”.
ولن تكون قد استهلكت كميات أكثر من المعقول من “نظرية المؤامرة”، إذا أنت حذفت اسم العراق ووضعت ليبيا، ورفعت واشنطن وأدخلت باريس، وسحبت “غزو الكويت”، وأضفت “غزوة شارلي إيبدو”، وأنت تقرأ المشهد الجنائزي المبالغ فيه حد العبط، المتجسد في احتفاء نخبة الدولة العميقة التونسية بأحد ضحايا المتجر اليهودي، واعتباره رمزاً تونسياً بكت عليه أكثر مما بكت على شهداء الثورة التونسية، ثم، في نهاية المطاف، قررت عائلته دفن جثمانه في القدس المحتلة، باعتباره مواطناً صهيونياً.
جدير بالثوار المصريين أن يكسروا طوق الحزن الباريسي المفروض على الجميع، بقوة ترسانة الميديا العالمية، ويتذكروا أنه قبل أحد عشر يوماً من ذكرى ثورة الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني، عادت مصر بكامل هيئتها إلى سجن دولة حسني مبارك، بعد أن قرر قضاء مبارك، أمس، فتح الطريق له ولولديه لكي يعودوا إلى منتجعاتهم، بعد أن أعادهم قبل شهر ونصف الشهر إلى مقاعدهم.
حري بالجميع أن يتمردوا على قرار حشرهم في ملاهي شارلي الحزينة، ويلتفتوا إلى ما كانوا قد بدأوه من جهود أثمرت الكثير على طريق التوحد والاصطفاف، على الرغم من نشاط قطاع الطرق الملحوظ لوأد أي بصيص فرصة للالتقاء على أهداف ثورية عامة، تتجاوز مهارشات صغار الباعة الجائلين الذين “يسرحون ببضاعة باعوكم”.
كما أنه جدير بكل صاحب ضمير وإحساس في هذا الوطن العربي، وفي العالم، أن يتذكر أنه، وهو يغوص في مقعده الدافئ، متابعا أخبار شارلي عبر التلفزة، هناك مئات الآلاف من العرب يواجهون الموت وحدهم في مخيمات النزوح واللجوء السورية والفلسطينية والعراقية، ليس بفعل مؤامرة الشتاء البارد فقط، وإنما نتيجة جريمة النظام الرسمي العربي ضد الربيع.
العربي الجديد – وطن اف ام