مقالات

وسام سعادة : أصناف مختلفة من الحماسة لـ«حزب الله»

الحماسة لردّ «حزب الله» على الغارة الاسرائيلية التي استهدفت فريقاً من «حرس الثورة الايرانية» ومن كان في مؤازرتهم من الحزب، جاءت على صنفين: فثمة من جهة، من يرى في استهداف اسرائيل للنظام السوري و»حزب الله»، والآن الحرس الثوري، تأكيداً على صحّة خيار الانخراط في الحرب السوريّة إلى جانب قوات النظام. لكن ثمة، من جهة ثانية، رأياً أكثر نخبوية، ويعبّر عنه بطرائق شتّى، ومختصره أن المواجهة مع اسرائيل، أيّاً كان سياقها وعنوانها ووجهتها، هي «تصحيح» لخطأ التهاء الحزب بالنزاعات الطائفية اللبنانية، ومن ثمّ بالحرب السوريّة. وقد يغلّف الموقف الثاني نفسه بموقف سبق أن عبّر عنه «حزب الله»، بأنّ مضيّه إلى الحرب السورية يأتي لا عن حماسة، وان المعركة التي يشتاقها هي تلك التي يصطدم فيها بالإسرائيليين.

حماسة الصنف الأوّل تستند إلى حبكة منطقية أكثر تماسكاً. فالحزب ليس سندريللا المتحوّلة من حال إلى حال قبل مضيّ الحكاية. والغارات الاسرائيلية تستهدف مواقع تابعة للنظام السوريّ أكثر مما تستهدف مواقع تابعة للحزب في الداخل السوريّ.
واذا كانت يد النظام مغلولة سواء لتبرير ساقه أنصار هذا التفكير له أو من دون، فإنّه ينظر إلى الحزب بوصفه الطليعة المجرّبة في معسكر الممانعة وتستطيع أن تتولى الحمل عن هذا النظام بكلفة أقل وتسديد أكثر ايلاماً للجانب الاسرائيلي. هكذا يفكّر القسم الأوّل من «الممانعين» اليوم.
هم أكثر واقعية من القسم الثاني، لأنّهم لا يسقطون على «حزب الله» رغباتهم وشهواتهم في حزب كان يفترض أن يولد في تربة أخرى، أو بجذور عقائدية مختلفة. أمّا القسم الثاني، الذي يريد أن يلعب لعبة «النقد البناء» لمسارات الحزب، فإنّه يريد أن يعفي نفسه من المسؤولية، وينتقي فقط ما هو جميل مشهدياً بنظره، ويأخذه حجّة للتعتيم الذاتي على ما ليس بهذا الحُسن والبهاء.
حال هذا القسم الثاني يقول: الحمد لله ان الحزب، رغم تسع سنوات قضاها بعيداً عن العمل المسلّح بوجه اسرائيل، قد أثبت أنّ «التعقيدات» الداخلية والاقليمية لا تلهيه عن المواجهة مع اسرائيل. طبعاً، يبلع صنفا الممانعين تماماً عدم قيام الحزب بأي عمل أمني وقت الحملات العدوانية الاسرائيلية على قطاع غزة وحركة حماس.
بشكل عام، القواعد الشعبية للحزب تميل إلى الصنف الأوّل: وحدة المعركتين، دفاعاً عن نظام بشار الأسد وضد اسرائيل. أما النخب الثقافية والأهلية على ضفاف الحزب فإنها تنقسم بين الصنفين، التكاملي بين الجبهتين، أو «التصحيحي»، لأنها تضمر القول بأن «حزب الله» حين يواجه اسرائيل فهو يصحّح مساراً، ولو أنّ النظام السوريّ قام بالأمر نفسه لرأيت من ينظّر للأمر نفسه: انّ النظام، مثلاً، يطهّر نفسه من ذنب الكيماوي في الغوطتين لأنّه تحرّك ضد اسرائيل. طبعاً، النظام السوريّ يتكفّل بإلزام الممانعين بجادة الواقعية: هو لن يفعلها.
أما «حزب الله» فيبقي لهم مساحة للرومانسية، للحلم، لتلبيس الحزب نفسه أقنعة غيفارية أو فيتنامية. بالنسبة لصنف الأوّل من الممانعين، الممانعة هي خطاب واحد. بالنسبة للصنف الثاني، الممانعة صنفان: نثر يتكفّل به الموقف من النظام السوري، وشعر يرضيه الموقف من «حزب الله». طبعاً، الطاقة الحجاجية والسجالية التي يملكها زعيم الحزب السيد حسن نصر الله لا يمكن عزوها إلى الشعر في مقابل النثر. لكنها، الحاجز الذي يستند اليه مثقفون غير قليلين للتعبير بأنماط مختلفة عن موقف مزدوج من معارك الحزب: موقف فيه «سلبية متفاوتة»، حول مشاركته في الحرب السورية، وموقف فيه مزايدة على الحزب نفسه حين ينفّذ الحزب عملية ضد الاسرائيليين.
وعدا عن المسألة السورية، رأينا مؤخراً تطبيقاً للقاعدة الكلامية نفسها: ضد «حزب الله» في سياسته النقابية، اليمينية جداً، التي أطاحت برمز «هيئة التنسيق النقابية» حنا غريب، في طاعة كاملة للأوليغارشية المالية اللبنانية، ثم معه دون أي مسافة نقدية عندما فتح النار في منطقة مزارع شبعا.
بديهي القول، انها الطريقة المأثورة للأيديولوجيين، لا سيما اليساريين، في التمييز بين تناقض رئيسي وتناقضات ثانوية. لكن ما يحصل يتجاوز ذلك: انه الفصل في «حزب الله» نفسه بين طبيعتين لاهوتيتين. واحدة مفطورة على المقاومة وتحرير الأرض، غريبة عن الحسابات النفعية والدنيوية. وثانية، هي نفس أمارة بالسوء، حين تشتدّ انحرافاتها ليس لهذا الصنف من الممانعين الا انتظار اللحظة الآتية من الصراع مع اسرائيل لتنفّس الصعداء. هذا هو «لاهوت يسار حزب الله». بالمقارنة به، تبدو عقيدة «حزب الله» مادية وواقعية.
لقد استعار الامام الخميني مفهوم الثورة من قاموس الحداثة السياسية، واستعار «حزب الله» من هذا القاموس مفهوم «المقاومة». بشكل عام، الحماسة لـ«ثورة» الخميني انطفأت سريعاً لدى المثقفين العرب، لأن الكثير منهم تحمّسوا بعد ذلك لصدام حسين في الحرب.
أما الحماسة لاستعارة الحزب مفهوم المقاومة فصار لها تاريخ، تاريخ مزمن ومتعرّج ويحوي أصنافا عدّة، لكن من نقاطها الحيوية أن «حزب الله» يطهّر نفسه من أي اثم أو شبهة، ما ان يصطدم مع اسرائيل. وطبعاً، في المقلب الثاني من المشهد، هناك من يتذاكى دائماً، حين يدخل الحزب في مواجهة لبنانية أو سوريا، فيسأله أين ذهب نضالك ضد اسرائيل، حتى اذا عاود الحزب مثل هذا الحديث استاء المتذاكين.
ليس هناك من «خدمة أيديولوجية» تقدّم للحزب أفضل من هذا التذاكي، ثم يليه من يتبرّعون له بصكّ التطهّر عندما يعود إلى «المنبع». القواعد الشعبية التي تؤيد سياسة الحزب خارج هذين الاطارين تبقى أسلم منطقياً وأخلاقياً، وفي مكان ما، يهمّها، ولو بالهمس، أن تخفّض «التعرفة القربانية» التي تدفعها سواء في الحرب السورية أو في غيرها.

القدس العربي _ وطن اف ام 

زر الذهاب إلى الأعلى