“لن تكون هناك محاكم تفتيش” كما لو أن حزب الله في لبنان يحاول أن يقول ذلك، في إشارة ماكرة منه إلى ما فعلته، وتفعله، الجماعات الدينية المسلحة بالبشر في المدن والبلدات السورية والعراقية التي وقعت في قبضتها ولم يفعله هو.
لقد سوّغت تلك الجماعات لنفسها أن تدير شؤون السكان في تلك المناطق بما ينسجم وطريقتها في النظر إلى الحياة، انطلاقا من فهمها الفقير والقاصر والانتقائي والمشوه والتبسيطي للنصوص الدينية، وهي نصوص ملتبسة تاريخيا، لن تصلح معيارا لزمن غير الزمن الذي ابتكرت من أجله.
وإذا ما كانت تلك الجماعات التي ارتبطت بالإرهاب من أجل تنفيذ مشاريعها على الأرض قد جاهرت بالتكفير، تكفير كل من يختلف معها في تأويل النصوص الدينية وتفسيرها، فإن سواها من الجماعات، ومنها حزب الله، قد نجحت في صنع بيئة تكفيرية لا تضع الآخر المختلف في مكانه الصحيح، شريكا في الفهم ومحاورا ذكيا، لديه من الحجج العقلية ما يستند إليها للدفاع عن قناعاته. في الحالتين فإن خيار الحكم من خلال الدين لابد أن ينتهي بدُعَاته إلى التكفير.
فالإيمان بعقيدة مطلقة، تعتمد، في حالتنا، على نصوص منزّلة من السماء لا يقبل التسويات الوسطية، ولا يمكنه أن يقدم تنازلات في حوار لا يملك فيها الدليل العلمي القاطع على صحة ما يذهب إليه من أحكام، وهو، أيضا، إذا ما امتلك القوة غير قادر على القبول بمن يختلف معه حيا.
في تلك الحالة يقف الإيمان مطلقا في مواجهة كل ما سواه باعتباره كفرا مطلقا. لا تختلف دولة طالبان عن الدولة الإسلامية في إيران، إلا في حدود الزخرف البلاغي والشكل الخارجي الذي تظهر المرأة من خلاله، شكل تفرضه البيئة الاجتماعية من خلال عبورها بالتاريخ ولا علاقة له بالتصور الديني.
وعلى هذا الأساس يمكنني القول إن كل الجماعات الدينية التي نظّمت نفسها على قاعدة تمثيل الفرقة الناجية هي جماعات تكفيرية، سواء جاهرت بالتكفير مثلما تفعل الجماعات الإرهابية (داعش هو أبرزها اليوم) أو أنها اكتفت بصناعة بيئة تكفيرية صامتة، تملك ما يثري قناعتها من البراهين على أن الدين لن يكون كاملا إلا من خلال طريقتها مثلما يفعل حزب الله.
لذلك فإن الجماعات الدينية لا تصلح سوى لبناء مجتمعات مغلقة على نفسها. أما إدارة الدول وتصريف شؤون الناس فهو أمر يتعدى قدرتها، وهو ما يدفع بها إلى التورط في إقامة محاكم تفتيش جديدة، تكون هذه المرة إسلامية. ما فعله تنظيم داعش بالناس في المناطق التي وقعت تحت احتلاله لا يبشر بأمل قد يجني منه التدين خيرا. العكس هو الذي سيقع. في المقابل فإن التجييش العقائدي على أسس طائفية والذي يمارسه حزب الله، سيدفع بالشباب إلى الاستخفاف بمفهوم الشهادة المقدس دينيا.
الفكرة التجريدية لن تنتصر على الرغبة في الحياة. فما الذي يمكن أن تقدمه الجماعات الدينية من نماذج للحكم أفضل ما قدمته دولة طالبان والجمهورية الإسلامية في إيران؟ يمكنها أن تقدم الأسوأ دائما. وهو ما فعله تنظيم داعش وحزب الدعوة وجبهة النصرة ومنظمة بدر.
ليس هناك سوى القتل. قتل العدو الطائفي وهو كافر، وقتل النفس باعتبارها مشروعا للشهادة. وهكذا تكون الدعوة إلى تبنّي خيار الدولة الدينية، محاولة لتبني القتل أسلوبا في الحوار. فآخر ما يفكر فيه المتطرفون الدينيون هو حق الآخر في الحياة. وما يجب أن ندركه ألا فرق بين متشدد وآخر في هذا المجال، وهو مساحة لاغتيال مصائر الشعوب التي ستغدو مقابر جماعية. فمَن يفكر بالشهادة حلا يشبه من يفكر بالانتحار حلا. كلاهما يطفئان شعلة الحياة الإلهية.
العرب اللندنية _ وطن اف ام