لا يمكن اعتبار أن المنطق العشائري والقبلي حالة نافرة ومرفوضة في مجتمعاتنا العربية، عندما تدار سياسات الدول ومصائرها وفق المنطق نفسه. لا يمكن إدانة الانتقام الفردي كظاهرة اجتماعية، عندما تبدأ الدول بممارسة الفعل نفسه كرد فعل انفعالي غاضب، وتلقى المشروعية من الشعب ودول المحيط القريب والبعيد، وحتى من دون إدراك إلى أين سيودي بها هذا الفعل.
الحديث، هنا، تحديداً عن ردي الفعل، الأردني والمصري، في أعقاب جريمتي إحراق معاذ الكساسبة وذبح المواطنين المصريين الواحد والعشرين في ليبيا. لجأ الاثنان، تقريباً، إلى الأمر نفسه في تعاطيهما مع الجريمتين، مع فارق بسيط نظرياً في الحالة الأردنية، إذ لجأت الدولة إلى إعدام ساجدة الريشاوي، القابعة في السجن منذ نحو ثماني سنوات، وفق منطق “العين بالعين”. لا يمكن لوم عمّان والقاهرة على رد الفعل هذا، خصوصاً أنهما تسيران على هدي التحالف الدولي الذي أنشئ رداً على جريمة مماثلة. لكن التحالف لم يبدأ غاراته إلا بعد مشاورات طويلة ودراسات دقيقة للعمل، وأهدافه، ومداه في منطقة لا وجود فعلياً لقوات له على الأرض فيها، إلا أنه كان يراقبها منذ فترة، وتحديداً “داعش” في سورية والعراق. وإذا كان الأردن سار في غاراته وفق دراسات التحالف، الذي هو جزء منه، فإن الغارات المصرية جاءت عشوائية بالمطلق، خصوصاً أن وجود “الدولة الإسلامية” في ليبيا لا يزال جديداً نسبياً، على عكس ما هو عليه في سورية والعراق. مع ذلك، لم يتوان النظام في مصر، وبحسب ما تجيش إعلامه لإعلانه، عن “ضرب مواقع داعش في ليبيا”، وكأن مواقع داعش ظاهرة ومعروفة للجميع، خصوصاً في ليبيا، وليس عليك إلا البحث عنها على “غوغل مابس”، ليرشدك بسهولة إلى كيفية الوصول إليها، وتوجيه الضربات القاصمة لها، والعودة إلى إعلان النصر المظفر، على الأقل للجمهور الداخلي الذي خرج يفوض النظام مكافحة الإرهاب، وإذا بالإرهاب يأتيه من كل حدب وصوب. وفق هذا المنطق، كانت الضربات المصرية على أهداف لا تزال مجهولة حتى الآن، في ظل معلومات متضاربة، في الأساس، حول مكان ارتكاب جريمة ذبح العمال المصريين. لكن، لم يكن هذا مهماً بالنسبة للنظام في القاهرة، فالهدف هو بالأساس رد الفعل، وعدم الوقوف “مكتوف الأيدي” أمام هول الجريمة، والظهور بمظهر القادر على التحرك و”الضرب بيد من حديد”، بغض النظر عما سيضرب، أو إلى أين ستودي الضربات. هذا تحديداً ما فعلته الطائرات المصرية التي ألقت حمولتها من الصواريخ على مواقع لا أحد يعلم إلى اليوم ما هي، وسط أنباء غير مؤكدة عن استهدافها مدنيين، ما دفع إحدى السلطتين في ليبيا إلى التنديد بما سمته “العدوان المصري”. لكن، في المقابل، أدت الغارات الغرض منها، وأعطت مادة للنظام وإعلامه للتهليل والتطبيل للقوة المصرية في ضرب “داعش”، متناسين مجموعة الحقائق الماثلة في تجربة التحالف الدولي في العراق وسورية. حقائق أقر بها التحالف المدجج بالعتاد الحديث والقنابل الذكية، ومفادها بأن كل الغارات المنفذة على الأراضي السورية والعراقية لم تفلح في تحجيم “داعش” وخطره، وأن أي إنجاز حقيقي لا يمكن أن يتم من دون “وضع الأقدام على الأرض”. وضع التحالف الدولي ليس مستعداً له الآن، ومن المؤكد أن النظام المصري ورئيسه أيضاً ليسا في وارد الدخول في حرب برية غير محمودة العواقب، خصوصاً أن الحرب القائمة في سيناء لا تزال من دون منجزات، وبالتالي، ليست القاهرة مستعدة للغوص في المستنقع الليبي، من دون سند حقيقي، لا يزال غير مؤمّن. وإلى أن يتأمن هذا السند، لا بأس من بعض الغارات العشوائية التي تحقق أغراضها الإعلامية، طالما أن هناك من يدفع ثمن الوقود والقنابل.
العربي الجديد _ وطن اف ام