قد يكون ما سأكتبه في السطور الآتية محض “تنظير” غير مفيد في رأي البعض، لكن آخرين قد يرون فيه دافعاً للقيام بما أسماه الفيلسوف المغربي البارز، محمد عابد الجابري، “إرادة المستقبل”، فيتعلمون من التاريخ ما يُعينهم على خلق أفضل خاتمة ممكنة لصالحهم. والأهم أن يتعلموا بأن مسار التاريخ لا ينعكس، وأن مسايرته قد تكون أفضل بكثير من العِناد معه.
للتاريخ كلمته، فكما أن الشدائد التي لا تقضي على الفرد، تؤدي إلى صقله وتقويته، كذلك تفعل الشدائد مع الأمم والشعوب، مع جرعة ألم مُضاعفة، و”غربلة” للعناصر غير المناسبة للنهوض مستقبلاً، والأهم، تجربة مريرة، تجعل المستقبل أكثر سُطوعاً من الماضي، في غالب الأحيان.
استخدم الروائي الأمريكي البارز، دان براون، تعبير “إنفيرنو – الجحيم” في استعارة من ملحمة دانتي الشهيرة في “الكوميديا الإلهية”، لإيصال فكرة جدلية للعالم، مفادها ضرورة “غربلة” البشرية قبل فوات الأوان.
“إنفيرنو” دان براون، استعارة عميقة المغزى من دانتي، مفادها أن “إنفيرنو – الجحيم” هو الطريق الإجباري للوصول إلى “الجنة”، وفي رواية دان براون، تخفيض عدد السكان عبر إجراء كارثي غير أخلاقي بالمعايير السائدة لدينا اليوم، قد يكون الطريق الإجباري للنهوض بالبشرية وتجنيبها مصيراً قاتماً مع التزايد السكاني المستمر. في حالات الشعوب والأمم، يذكر التاريخ أن لكل منها “إنفيرنو – جحيم” خاص بها. ومع وجود استثناءات نادرة تؤكد القاعدة التاريخية ولا تنفيها، يبدو أن نهوض معظم الشعوب يُسبق بشدائد ومحن، قد تكون على هيئة كوارث طبيعية، كالطاعون الذي أتى على ثلث سكان أوروبا قبيل عصر النهضة، لكنه أدى لاحقاً إلى حراك اقتصادي وعلمي واجتماعي فريد ساهم في نهوض “القارة العجوز” يومها.
وفي معظم الأحيان، يكون “جحيم” الشعوب على هيئة حروب مدمرة، تأخذ، في الأغلب، هيئة الحروب والصراعات الأهلية. وفي استرداد تاريخي لتجارب عديدة، لا يمكن إحصاؤها هنا، عشرات الحروب الأهلية التي أعقبها نهوض أمم وشعوب كان الظن قد غلب، لفترة طويلة، أنها باتت في غياهب التاريخ. وكما أنها متلازمة، شبه ثابتة، أن يعقب الكثير من الثورات حروب أهلية، فإنها متلازمة، شبه ثابتة، أن يعقب معظم الحروب الأهلية نهوض اجتماعي واقتصادي فريد. الثورات في معظم الأحيان تؤدي إلى صراعات أهلية، فالثائرون يمسون مصالح شريحة من المجتمع، لا بد أنها ستدافع عن مصالحها المتمثلة في تسلطها على بقية شرائح المجتمع، بكل الوسائل الممكنة، ومن ثم ستندلع حرب أهلية، يكثر فيها سفك الدم، في مشهد يُظهر الفوضى للعيان، لكنه يضمن في غياهبه “غربلة” حتمية للمجتمع وللقيم في الوقت نفسه، فتكون الخاتمة كحال الآية القرآنية التي تتحدث عن السيل، وتشبه الباطل بالزبد، والحق بالماء، فتشير إلى أن الزبد الذي يعم في البداية، سرعان ما يختفي، فيما يبقى الماء الذي تمتصه الأرض بصورة تنفع الناس. اليوم، تشهد سوريا تكراراً لتلك الحتمية التاريخية، ثورة فحرب أهلية، تعمها الفوضى ظاهراً، لكن سياقها “غربلة” للمتطرفين من كل الأطراف، وللقيم غير الصالحة، ولأولئك الذين ساقهم العِناد عكس مسار التاريخ الحتمي.
المدقق في المشهد بسوريا يرى أنه خراب، ويعتقد أن هذا البلد لن تقوم له قائمة بعد اليوم، لكن التاريخ ينفي ذلك، في معظم الحالات، ولا يعني ما سبق أنه لا توجد استثناءات، لكنها استثناءات من الندرة بحيث تؤكد القاعدة التي تقول بأن الشدائد تصقل تجارب الشعوب فتنقلها بصورة نوعية نحو الأمام، نقلةً ربما ما كانت لتحدث لولا حالة “الغربلة” البشرية والقيمية التي عاشها أفرادها. اليوم تشكل سوريا مغناطيساً للمتطرفين، وساحة لتصفيتهم، من كل الأطراف، وتعم لعنتها الجوار، وتكاد تصل إلى كل من ساهم في إطالة أمد أزمتها من اللاعبين الإقليميين والدوليين. فها هي إيران تُستنزف في الساحة السورية، وبفعل الأخيرة، يمتد نزيفها إلى الساحة العراقية، ولأنها تظن أنها تُحسن عملاً، مدّت نزيفها إلى اليمن. فيما يُستنزف حزب الله في الساحة السورية، والمتطرفون من الطرف الآخر كذلك، كل من تسلق على ظهر الإسلام على أمل السطوة والحكم، ينتكس اليوم، ويُكشف عن عُقم رؤاه. أما نظام الأسد، ومناصروه، والشرائح المحسوبة عليه، تلك التي اصطفت وراءه من اللحظات الأولى حفاظاً على مكاسب سطوتها على شركائها في الوطن، أكبر المستنزفين.
في الوقت الذي تعم لعنة سوريا لتنال من أمن كل اللاعبين الإقليميين والدوليين عبر تفريخ المتطرفين في كل مكان. ومهما طالت السنوات، ففي نهاية المطاف سينهار المتطرفون والمكابرون من كل الأطراف تحت وطأة الاستنزاف، وستبحث القوى الإقليمية والدولية عن حلول تُنهي حالة الفوضى العارمة التي ترتد إلى القوى ذاتها التي ساهمت بتحقيقها أو إطالة أمدها. وفي نهاية المطاف، ستنتهي قعقعة السلاح، وسينتحي هواته جانباً مضطرين، لصالح القادرين على القيام بزمام الأمور في لحظة إعادة الإعمار، ليس على الصعيد الاقتصادي فقط، بل على الصعيد السياسي والوطني أيضاً. وسيرجع الكثيرون من السوريين إلى بلدهم بتجاربهم التي اكتسبوها من شعوب وبلدان أخرى خلال فترات اللجوء المريرة، وبعضهم سيعود مع سيولة مالية حصّلها خلال عمله الدؤوب حيث كان، بعد أن حثه اللجوء والمأساة على الإبداع…أولئك العائدون، مع الصامدين في بلدهم على ضفتي “التطرف”، سيُعيدون إعمار هذا البلد، ليكون كغيره من التجارب التاريخية التي تسردها الكتب، عن أمم وشعوب نهضت من تحت رُكام ورماد الحرب، لتصنع تجارب أدهشت المُراقبين وحيرت عقولهم لعقود.
المدن _ وطن اف ام