في الخامس من أبريل من العام 2015، عرض الصحفي الأمريكي توماس فريدمان في صحيفة «نيويورك تايمز» مقابلة مطولة مع باراك أوباما عرض فيها الأخير فلسفته السياسية دون توريته المعتادة وخطابه الثقافوي النخبوي، لما سماه فريدمان العقيدة الأوبامية حول الشرق الأوسط. وهي في حقيقة الأمر فلسفة النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية كممثل فعلي لمصالح المجتمع الصناعي – العسكري – المالي في الولايات المتحدة وشركاته العابرة للقارات، والتي تمثل الحاكم الحقيقي في الولايات المتحدة، بغض النظر عن التزويقات والديكورات الشكلية لخطاب الحزبين اللذين يتبادلان الموقع في سدة الحكم في الولايات المتحدة دون أن يغير من حقيقة كونهما وجهان لقطعة نقد واحدة.
وتتلخص المحاور الأساسية للعقيدة الأوبامية حرفياً كما وردت في المقابلة السالفة الذكر، ودون أي اجتزاء مخل أو خطل في التعريب التي نوردها باتساق مع ترتيب وردوها في المقابلة موضوع هذا المقال:
أولاً: «الالتزام الثابت بالحفاظ على التفوق العسكري الإسرائيلي المطلق وعلى كل المستويات في منطقة الشرق الأوسط». ودون أي إشارة في سياق الحديث عن العقيدة الأوبامية فيما يخص الشرق الأوسط عن إيجاد حل عادل لمحنة الشعب الفلسطيني. ويستشف ضمناً من تفسير أوباما لفلسفته عن الشرق الأوسط بأنه يسلم فعلياً بموات تلك العملية بشكل عميق لا يستوجب حتى الوقوف على أطلالها حين الحديث عن فلسفته الشرق أوسطية.
ثانياً: «لا مناص من تحول إيران إلى دولة نووية في نهاية المطاف، وأن أكثر ما تحلم به القيادة الأمريكية هو تأخير حصول إيران على السلاح النووي، وأن العقوبات الأمريكية وغيرها لا تغير من تلك الحقيقة. بالإضافة إلى أن تلك العقوبات لن تمنع من إصرار القيادة الإيرانية على الحصول على السلاح النووي، وإنما فقط تؤذي الشعب الإيراني الذي أظهر توقاً للانضمام للمجتمع الدولي والاقتصاد العالمي تبدى في انتخاب روحاني رئيساً لإيران».
وهنا لابد من التفكر عميقاً في مدى تفهم سيد البيت الأبيض لطبيعة النظام الحاكم في إيران، ومركز الثقل الأساسي والمحرك فيها، والمتمثل في المرشد الأعلى والمؤسسة العسكرية الأمنية التابعة له، وليس سوى ذلك من الترقيعات الشكلية التي لابد أنها ليست خافية على أوباما ومستشاريه.
ولابد لنا نحن العرب من أن نستذكر هذا السياق سؤالاً مؤرقاً لم يتوقف عن الأزيز في عقول كل ناطق بلسان الضاد منذ كارثة حرب الخليج الأولى يتلخص في سؤال سيد البيت الأبيض: إذا كانت العقوبات والحصار خيارات غير حميدة، وتهشيم الأوطان بالحديد والنار ليس مفيداً، فلماذا تمت محاصرة العراق لسنين عجاف طوال قضي فيها على مئات الآلاف من أطفاله جوعاً ومرضاً تمهيداً لتهشيمه وتركه مرتعاً خصباً لكل التكوينات السامة التي ما كان لها أن يستقيم استنباتها في حال تم ترك الشعب العراقي ليقود مخاضه التحرري التدريجي بالشكل الذي يراه سيد البيت الأبيض حقاً طبيعياً وتطوراً محموداً للشعب الإيراني، ولما يكن كذلك للشعب العراقي أو لأي من الشعوب العربية كما يشي بذلك كل التاريخ العربي المعاصر للبيب أو غيره من قرائه.
ثالثاً: «الحقيقة في منطقة الشرق الأوسط أن العرب السنة هم قومية قائمة بالفعل تواجهها قومية أخرى تدعى العرب الشيعة، وأولئك الذين ينتسبون لتلك الأولى لا يكمن أس مشكلتهم في الخطر الذي قد يفد عليهم من إيران، وإنما جوهر مشكلتهم يكمن في الأيديولوجيا التدميرية العدمية التي يعتنقونها، والتي تبدو واضحة في شبابهم المغترب عن واقعه، والعاطل عن العمل في معظم الأحيان، والمختنق بضيقه لعدم وجود منافذ سياسية شرعية لتنفيس تلك الأيديولوجيا التدميرية العدمية التي يعتنقونها».
خطاب هوائي ممسوس لم يكلف نفسه عناء اجترار كيف عملت إدارة أوباما نفسه على تخليق الطائفية بالحديد والنار إبان احتلالها للعراق، وتنطعها لإجهاض الربيع العربي في بواكيره، وفي كل مواضعه الجغرافية، وبأمثلة لا حصر لها قد يلخصها سيرورة التآمر على ثورة الشعب السوري حين حاصرت الإدارة الأمريكية الثائرين من أبناء الشعب السوري، ومنعت عنهم كل ما يستطيعون الدفاع به عن أنفسهم وحتى قوتهم في بعض الأحايين، وحظرت نجدتهم من كل من أراد ذلك من دول الجوار، وتركتهم للتحول الطبيعي إلى بيئة خصبة لانتقال كل ما زرعه الأمريكان أنفسهم في الهشيم العراقي وقبله في الركام الأفغاني من مجاهدين عتاة إلى صنوهما السوري الذي لم يكن للأيديولوجيا التدميرية والعدمية مكان فيه لولا ما قامت به الإدارة الأوبامية من مناورات وخطوط حمراء أنذرت بها وزمجرت، فتبين بعد حين بأنها خطوط خضراء لتحطيم كل آمال الشعب السوري في تشكيل بنية سياسية شرعية تمثله بكل أطيافه وتلاوينه الطبيعية ككل أمم الأرض الأخرى.
ويحضرنا أيضاً في نفس السياق الحالك في راهنيته تذكر التأخر المريع للإدارة الأوبامية نفسها في تجميد الأرصدة والحسابات البليونية لعلي عبد الله صالح، وتذكر وجوب القيام بذلك بعد شهور طوال من ترك ذلك الأخير ليهربها ويعيد تغليفها بكل روية في أسماء شركات واستثمارات ليست الإدارة الأمريكية بعاجزة عن تعريتها إن أرادت، ليستخدمها في تحويل اليمن المكلوم لساحة فناء لشعب كانت ثورته العظيمة نموذجاً مدرسياً في حضاريتها وانضباطها الذي أرعب الأمريكان وأقلقهم كما أرعبهم من قبل كل تحرك لشعب يروم الانعتاق من طغاته وجلاديه، وكان لابد من حرفها عنوة إلى النموذج الداعشي المقيت.
رابعاً: «علاقة الولايات المتحدة مع العرب السنة يمكن اختزالها في أن الأمريكان على استعداد لتقوية قدراتهم الدفاعية تجاه الأخطار الخارجية، ولكن دون أن يكون ذلك مشروطاً بكون النفط هو مصلحة استراتيجية ثابتة للولايات المتحدة، فهو لم يعد كذلك، وهذا الواقع يستتبع تشجيع الولايات المتحدة لحلفائها من العرب السنة لاستخدام جيوشهم البرية لحل مشكلاتهم الإقليمية وخاصة في حرب مفتوحة ضد نظام الأسد».
خطاب خطير ومهول يومئ بانقلاب الأمريكان على ما ظنه بعض العرب من عروة وثقى مع سادة البيت الأبيض. فها هم يتنصلون من كل التزاماتهم التاريخية تجاه أولئك الأعراب بعد أن انقضت حاجاتهم بهم، وأصبحت أمريكا على وشك أن تصبح مكتفية ذاتياً بنفطها. ويعني أيضاً خطاباً انتهازياً ينطوي على تحلل من كل اتفاق والتزام مع أولئك الأعراب، ومطالبتهم بإنفاق ما راكموه من فوائض عوائد النفط خلال العقود الخمسة الأخيرة لشراء أسلحة وتقانة حربية أمريكية لأن سادة البيت الأبيض في حل من التزامات لم يعد هناك حاجة نفعية لها.
والأنكى من ذلك كله هو مطالبة حلفاء الماضي بأن يقلعوا الشوك الذي زرعه الأمريكان من قبل بجيوشهم ودمائهم وأموالهم. والنموذج الصافي المشخص لتلك الأطروحة الأخيرة هو دفع حلفاء عاصفة الحزم بغض النظر عن كل ضروريتها الأخلاقية والموضوعية التي جاءت متأخرة وبعد فوات الأوان – إلى أوحال المستنقع اليمني في حرب طويلة سوف تستنزف مقدراتهم، وتضطرهم لفتح خزائنهم على مصاريعها لرشوة سادة البيت الأبيض، حينما يصبح الخروج من مستنقع الفخار الذي يكسر بعضه بعضاً شبه مستحيل ولو بعد حين.
أما عن مطالبة الرئيس أوباما الفقيه بشؤون السلم الدولي للجيوش العربية بالتدخل لإنقاذ الشعب السوري من جرائم الأسد ونظامه في سوريا، متناسياً بأن السوريين كانوا قاب قوسين أو أدنى من إسقاط عاصمة النظام بسواعدهم وفي غير مرة، دون أن يحتاجوا مدداً خارجياً لولا الحصار الخانق الذي فرض عليهم وعلى كل من والاهم من دول الجوار، فمنع عنهم التسليح النوعي وغير النوعي، دون منعه أو محاصرة تمويله بشكل فعلي ملموس عن داعش وتلاوينها، والتي أصبحت الشماعة التي يعلق عليها الساسة الأمريكان يافطة تعزيز نفقاتهم الدفاعية بمليارات هائلة من أموال دافعي الضرائب من مسحوقي الشعب الأمريكي.
خامساً: «لا يعني الولايات المتحدة تغير أو عدم تغير طبيعة النظام في إيران، المهم حصرياً هو السماح للاستثمارات بالقدوم إلى إيران، وهو ما سوف يؤدي إلى انفتاح السوق الإيرانية على الاقتصاد العالمي، وهو الهدف الجوهري من السياسة الأمريكية تجاه إيران». هنا بيت القصيد الأوبامي: إيران سوق ضخمة لابد من الاستثمار بها والاستفادة من مقدراتها.
فلمّا يعد هناك أرض في هذا الكوكب إلا وقد استنزف ثرواتها المجمع الصناعي – العسكري – المالي الأمريكي مشخصاً بالشركات العابرة للقارات التي تدير الولايات المتحدة والنظام العالمي الرأسمالي المعولم من خلفها. والقليل منها الذي لا زال غير منخرط في ذلك الأخير، لابد من الانقضاض عليه كإيران، وكوبا، وحتى كوريا الشمالية.
وأي اعتبارات تاريخية والتزامات سياسية تسقط في ذلك السياق. وهذا يعني فيما يعني نهاية لكل التحالفات الاستراتيجية التي ظن بعض الأعراب ثباتها وعدم تغايرها بتغير الأحوال الموجبة لها، واعتبروها دهراً بأنها حصن منيع لهم فتبينت الآن بكونها قلعة من رمل تداعت حالما سقطت الحاجة النوعية لوجودها، والمتمثلة جوهرياً في لعنة النفط التي شخصت العنوان الأكثر عمومية لمأساة العرب في تاريخهم الحديث والمعاصر.
نعم ها هو الفقيه أوباما يتجرد بلغة غير ملتبسة كعادته الثقافوية، من كل التزاماته التاريخية، ويسقط النصيف عن حقيقة السياسة الأمريكية تجاه العرب وأرضهم وحيواتهم، ليظهرها ليس كما بدت متجردة النابغة الذبياني بحسنها وألقها، وإنما بعورتها الصرفة وقبحها الانتهازي الخسيس الذميم.
وإذا كانت الحال على هذا النحو من الفظاظة والفجاجة والأسى، فهل بقي للعرب سوى أن يقلعوا الشوك الذي زرعه الأمريكان بأيديهم وأيديهم فقط. ولا طريق إلى ذلك سوى بالانفتاح على أبناء الشعب العربي أنفسهم.
القدس العربي _ وطن اف ام