يبدو أن العام الخامس على اندلاع ثورة السوريين لإسقاط نظام الأسد سيكون هو العام الحاسم، أو أقله العام الذي سيمهد للحسم، سواء بالطريقة السياسية أو العسكرية، أو بالطريقتين معا.
طبعا، ثمة مؤشرات تفيد باحتمال ذلك مع الحديث عن رفع الحظر الأميركي عن تسليح المعارضة بأسلحة نوعية، وتشجيع الدول العربية على القيام بما من شأنه وضع حد للكارثة السورية، تبعا لتصريحات الرئيس أوباما مؤخرا، والتي كررها بعض أركان إدارته، بشأن فقدان الأسد الشرعية، واعتبار أن “داعش” (تنظيم الدولة الإسلامية) موجودة بسبب وجوده، والمتعلقة أيضا بعدم وجود أي دور له في مستقبل سوريا.
يأتي ذلك أيضا ضمن استعادة النظام العربي فعاليته، واستنهاضه قواه في مواجهة النفوذ الإيراني، من اليمن إلى سوريا مرورا بالعراق، ليس على الصعيد النظري فقط، وإنما على الصعيد العملي. وبديهي أن هذه العوامل تشمل تركيا، التي تساوقت مع هذه المسارات، ورممت علاقاتها مع السعودية، الأمر الذي انعكس إيجابا بتوحد المجموعات العسكرية للمعارضة.
ولا شك أن هذه التطورات كلها، والتي أدت إلى انكفاء الدور الإيراني، بعد “عاصفة الحزم”، أسهمت في تحقيق بعض الانتصارات اللافتة، في الشمال والجنوب السوريين، لا سيما في حوران وإدلب وجسر الشغور، والتي اعترف بها الأسد ذاته، واضطر معها زعيم حزب الله إلى إلقاء خطاب خصصه لرفع معنويات جمهوره في مواجهة ما أسماه الحرب النفسية.
هكذا، فإن نشوء أفق دولي وعربي للسوريين، بعد شعورهم بالخذلان، وتركهم مكشوفين أمام قصف المدفعية والطائرات والبراميل المتفجرة، استنفر طاقتهم وأنعش الأمل في قلوبهم.
بيد أن ما يفترض الانتباه إليه جيدا، في غضون كل ذلك، أن القوى الفاعلة في الثورة السورية، وحتى تستثمر هذه التغيرات الإيجابية في الأوضاع الدولية والإقليمية والعربية، بطريقة صحيحة وناجعة، يلزمها الإقدام على مراجعة مسارات الثورة، بطريقة نقدية ومسؤولة، وملاحظة نواقصها ومشكلاتها وتحدياتها وأوجه قصورها، خاصة في المجالات الآتية:
أولا: حاجة الثورة لتوضيح خطاباتها ومقاصدها، بعد كل التخبطات التي صاحبتها منذ اندلاعها، ولعل هذه مهمة الاجتماع القادم، المتوقع عقده في الرياض لممثلي المعارضة، أو ربما تنبثق عن هذا الاجتماع هيئة تكون مهمتها الإعداد لوثيقة سياسية، تعيد التأكيد على إجماع السوريين، بشأن إقامة نظام سياسي يتأسس على الحرية والمساواة والعدالة والكرامة لجميع المواطنين دون أي تمييز، والتداول على السلطة باعتماد الوسائل الديمقراطية.
ومعلوم أن في هذه النقاط يكمن إجماع مجمل السوريين بكافة تكويناتهم السياسية، وميولهم الأيديولوجية، ومع كل طبقاتهم وطوائفهم، إسلاميين، وعلمانيين، وقوميين أو وطنيين اشتراكيين أو ليبراليين، فسوريا الواحدة لا يمكن أن تكون إلا لكل السوريين.
ثانيا: ثمة معضلة كبيرة تواجهها الثورة السورية، وتتمثل في أن السوريين كشعب، بمختلف أطيافهم، باتوا خارج المعادلات الصراعية، بعد أن تمت إزاحتهم من المشهد، أو من المعادلات الصراعية، مع تعمد النظام تدمير ما يعتبره المناطق الشعبية الحاضنة للثورة، وتشديد الحصار عليها، وبسبب أن الانفجار السوري لم يصب فقط علاقات النظام بالشعب، وإنما تجلى أيضا في تضعضع التوافقات المجتمعية، أو تصدعها.
ويمكن ملاحظة ذلك في مدى الهشاشة والتفكك اللذين بدا عليهما المجتمع السوري، والذي ظهر على شكل مجموعات سكانية متباعدة ومتفارقة، يكاد ألا يجمعها جامع، فضلا عن أن بعضها بدا كأنه لا يبالي بما يجري، أو كأنه يسلم لاعتبار سوريا بمثابة مكان للإقامة وليس وطنا يضم كل السوريين.
ولعل هذه مناسبة للاعتراف بأخطاء كبيرة ارتكبتها الثورة، ولو عن غير قصد، ضمنها الاعتقاد بأن معظم السوريين، على اختلاف مكوناتهم في صفها، في حين بَينت الأحداث أن تعقيدات الوضع الطائفي والمذهبي والإثني في سوريا أكثر صعوبة، وأكثر تعقيدا من أن يتم تأطيرها في معادلة تتألف من مقولة بسيطة: ثورة في مواجهة نظام.
وعلى النقيض من ذلك، فقد استمرأت بعض خطابات المعارضة تفسير أحوال سوريا بوجود سلطة “علوية”، من دون تمييز بين هويتها وبين الطائفة التي تسيطر عليها أكثر من غيرها. وقد بينت التجربة أن هذا وحده لا يفسر بقاء النظام، فإلى جانب استخدام القوة العاتية والتدخلات الخارجية المتضاربة التي عوقت الثورة وأضرت بها، فإن بقاء هذا النظام يرجع إلى نواة صلبة تتألف من كل مكونات المجتمع أي سنة ومسيحية وعلوية، مشايخ وقساوسة، يساريين وعلمانيين و”قومجيين” وموظفين ورجال أعمال ومثقفين من كل الطوائف، مما يفسر عدم قدرة الثورة على تنظيم عصيان مدني مثلا أو تفكيك جهاز الموظفين. هذه ثورة سورية، نعم لكن ذلك ينبغي أن ينطوي على ترسيخ هذا الاعتقاد لدى مختلف السوريين، وإشعارهم بأن ثمة مصلحة لهم جميعا في التغيير السياسي.
ثالثا: وبناء على ما تقدم، لم يعد يكفي ولا من المجدي التعاطي مع الواقع السوري وفقا للمنظورات السابقة، إذ إننا لم نعد إزاء معادلة صراعية قوامها طرفا الشعب والنظام، أو السلطة والثورة، إذ دخلت على المشهد أطراف أخرى، من المحسوبة على النظام أو على الثورة، وهي ربما باتت تستحوذ على أسهم أكثر في تقرير المسارات أو تحديد الخيارات.
ويأتي ضمن ذلك روسيا وإيران والمليشيات التي تشتغل كامتداد للنفوذ الإقليمي لها، كحزب الله اللبناني وعصائب الحق وكتائب أبو الفضل العباس العراقية، أو كالجماعات الإسلامية المتشددة المحسوبة على “القاعدة” أو المتماثلة معها (كجبهة النصرة و”داعش” مثلا)، وهذا ما أسميه الطبقة الثانية، التي تعمل في المجال السوري.
رابعا: ثمة معضلة في الثورة السورية قوامها أن التدخلات الخارجية، من الأطراف الدولية والإقليمية والعربية، باتت أكثر تأثيرا بالنسبة لتقرير مستقبل سوريا، لا سيما بسبب زيادة اعتمادها على الدعم الخارجي السياسي والمالي والتسليحي، وغياب بعدها الشعبي، وضعف تنظيمها لذاتها، وأيضا بسبب انتهاجها خيارات عسكرية معينة عن غير دراسة، أو تبصر.
ولعل هذه هي الطبقة الثالثة في صراعات القوى على سوريا، ولا يستثنى من ذلك التدخلات المتأتية من الأطراف الداعمة للثورة، والتي تشتغل بحسب مصالحها، ووفق حساباتها، ما قد يربك الثورة أو يزجها في معارك غير محسوبة، أو يحرفها عن مقاصدها. وبديهي أن المسؤولية هنا لا تقع على عاتق الدول المعنية فقط، إذ ثمة قسط من المسؤولية يقع على عاتق أطراف المعارضة ذاتها، أيضا، لأنها تسكت عن هذه التلاعبات والتدخلات، عن غير وجه حق، ولا تواجهها، دفاعا عن استقلاليتها وأولوياتها وفقا لمصالح السوريين.
خامسا: واضح من مجمل التطورات، وعلى ضوء تجربة السنوات الماضية، أن الولايات المتحدة هي التي ما زالت تملك الفصل في تسيير دفة الأحداث بهذا الشأن، أي أنها حتى في دورها السلبي والانكفائي، على ما يظهر، هي التي توزع الأدوار وهي التي توسع أو تقلص هامش تدخلات الأطراف الدولية والإقليمية والعربية. ويأتي وضمن ذلك أن الولايات المتحدة هي التي تتيح حتى لإيران وروسيا إسناد النظام، تماما مثلما هي التي تسمح بأدوار أخرى لتركيا وغيرها من الدول العربية في الإسناد المحدود للمعارضة، الأمر الذي ينبغي ملاحظته والاشتغال عليه بالطريقة المناسبة.
سادسا: تتصرف مختلف الأطراف على أساس أن الصراع يجري وفقا للقاعدة الصفرية، أي “يا قاتل يا مقتول”، فالنظام لا يبدو قابلا لأي تسوية، والمعارضة لا ترضى بأقل من أسقاطه. وبديهي فإن استسهال التحول نحو الثورة المسلحة، والتسرع في التعويل عليها، كان له كبير الأثر في وصول الثورة إلى هذا المأزق، بالنظر إلى ضعف إمكاناتها في هذا الخيار، مع التقدير لكل التضحيات والبطولات التي بذلت.
وبالتأكيد، فإن الحديث هنا لا يتناول الأفراد أو ظاهرة جماعات الدفاع الأهلية، أو المنشقين عن الجيش (الجيش الحر)، وإنما يتناول الجماعات العسكرية التي جرى ترتيبها من الخارج، ودعمها، على حساب جماعات “الجيش الحر”، لفرض أجندة معينة، أو لصبغ الثورة بلون معين.
القصد من ذلك أن مسار العسكرة ينبغي مراجعته، وتصويبه، ما أمكن وحيث أمكن، مع ملاحظة أن الثورة السورية انتقلت إلى الخيار العسكري دون أن تتدرج، ودون أن تنضج أدواتها اللازمة لذلك، ومن دون إستراتيجية عسكرية مدروسة، مع ملاحظة أن هذا الخيار نشأ على المراهنة المتسرعة على الخارج، أو على إمكان التدخل الخارجي، وهكذا.
القصد -أيضا- أنه في الصراعات السياسية لا يوجد شيء اسمه صراع صفري، يا قاتل يا مقتول، وفي الواقع فإن النظام هو من له مصلحة في جر الثورة، والسوريين إلى هذا المربع. والمعنى أن من مصلحة الثورة حث التوجه نحو حل سياسي يجبر النظام على الرحيل بأقرب وقت وبأقل ثمن، باستخدام الوسائل العسكرية أو بالوسائل السياسية، وضمنها وسائل الحصار والعزل والضغط الخارجي، وعلى أن تشتغل كل الوسائل معا في سبيل ذلك.
سابعا، مشكلة الثورة السورية أنها دخلت عامها الخامس وهي لم تستطع بعد أن تولد طبقة سياسية سورية يمكن أن تشكل جسما قياديا لها، إن على الصعيد السياسي أو العسكري أو على صعيد العمل المدني. وإذا كان من المفهوم والمقبول أن تنطلق هذه الثورة من دون قيادة، بالنظر لحظر السياسة في سوريا، فمن غير المفهوم ولا المقبول استمرار هذا الواقع، مع كل هذه المعاناة والتضحيات، ومع انفتاح السوريين على السياسة والحرية.
لا يدور الحديث هنا عن قيادات كاريزمية أو تقليدية، وإنما عن مرجعية قيادية، سياسية ومدنية وعسكرية، تجمع السوريين على خطابات الحرية والديمقراطية والكرامة التي صدرتها الثورة في بداياتها، مرجعية تشتغل على استنهاض طاقتهم الكفاحية، وتوحد كياناتهم السياسية، وترشد خطاباتهم السياسية، وتمكنهم من تحديد إجماعهم الوطني بخصوص سوريا المستقبل.
ثامنا وأخيرا: ربما يجدر الانتباه في الوضع السوري، وعلى ضوء التجربة، أنه لا شيء يقيني -في المدى المنظور على الأقل- في ما يتعلق بقراءة المستقبل السوري، لا انتصار المعارضة ولا سقوط النظام، فربما القرار بالحسم لم يصدر بعد، وما زالت المعطيات السائدة غير كافية بهذا الشأن، رغم كل التحولات الإيجابية الحاصلة عربيا ودوليا.
هذا يفترض من القوى المعنية، أو المقررة في الثورة، أن تشتغل على ترتيب أوضاعها بطريقة مؤسسية وديمقراطية وتمثيلية، بروح المسؤولية الوطنية، وبعيدا عن الحسابات الشخصية والحزبية. كما يفترض منها تنظيم أوضاع مجتمع السوريين، داخل المناطق المحررة، أو في مناطق اللجوء والشتات السوريين، فمن غير المقبول بقاء الوضع على ما هو عليه، لا سيما مع وجود مناطق محررة، لكنها لا تبدو كذلك، لناحية القوى التي تديرها، أو طريقة إدارتها.
هكذا، ثمة كثير من النواقص والمشكلات والتحديات التي تواجه الثورة السورية، والتي ينبغي العمل على حلها أو تجاوزها، بيد أن هذا قدر السوريين، ونتاج الموقع المفتاحي لسوريا في المنطقة، وضمنه موقعها بالنسبة لإسرائيل ولقضية الفلسطينيين.
مع ذلك فهذه الثورة، ورغم كل العذابات والتضحيات والنواقص والأثمان الباهظة، أنهت إلى الأبد، فكرة “سوريا الأسد”، بكسرها الانسداد الحاصل في تاريخ سوريا، وهذا شيء ليس بالقليل، وغير مسبوق، بالنسبة للشعب السوري، ومجتمعات هذه المنطقة.
المصدر : الجزيرة