لا أدعو غيري، ولا أدعو أصدقائي السياسيين والشخصيين، إلى ترك الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة السورية، لكنني أفكر، منذ أسابيع، بكل جدية بالخروج منه، آسفا كل الأسف على قرابة عامين أمضيتهما فيه، حاولت كل يوم خلالهما إصلاحه، من دون جدوى، فما لا يعطله نظامه الداخلي الذي وضعته جهة خارجية لشخص بعينه، يعطله من يرفضون من أعضائه تغيير أي شيء فيه، في حين تتكفل بالجوانب الأخرى من التعطيل رؤيا يخال أصحابها أنهم يمثلون شيئا يفتقر إليه غيرهم اسمه العقل، وأن كل ما يصدر عنهم يمليه عقلهم الذي لا مثيل له عند الآخرين، مع أن التجربة تؤكد بما لا يدع أي مجال لأي شك أنهم يغرقون في شبر ماء، في كل أمر وشأن، فلا عقل ولا من يعقلون… ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لم يكن دخولي إلى “الائتلاف” دخولا إلى السياسة السورية، بل إنه يكاد يصير خروجا منها، ومن السياسة بوجه عام، فلم أكن بحاجة إلى عضويته، كي أصبح من “المشتغلين بالثورة أو السياسة”، أو ليكون لي مواقف تجاه ما يجري في بلادي. وقد تمتعت دوماً كفرد يعمل في الشأن العام بالقدرة على اتخاذ قرارتي باستقلالية عن غيري: حزبا كان أو جماعة أو شخصاً.
كما دفعت دوماً، وأنا بكامل الوعي، ثمن الالتزام بها، قبل أن آتي إلى جهة سياسية تسمي نفسها ائتلافاً، لكنها تتذمر إلى درجة الرفض من إفصاح أي مكون فيها عن مواقفه، حتى إن كانت لا تختلف عن مواقفها ، فهي دمجية التوجه شمولية الميل، تتوهم أن الاعتراف الخارجي بها ممثلاً للشعب السوري يجعل منها، بالفعل، ممثلا حقيقياً وحصريا له، مع أن هذا الوهم بعيد عن الحقيقة بعد الأرض عن السماء، فالاعتراف الدولي بحق الشعب في أن يكون له ممثل آخر غير النظام، وأتمسك بهذا الاعتراف وأثمنه، لا يعني اعتراف السوريين بالائتلاف، أو تقليص الفجوة الكبيرة بينه وبين القوى الفاعلة ميدانياً التي لا يساوي قلامة ظفر من دون وجودها ودورها، بما أن استمرار الثورة مرتبط بها، لكن الائتلاف أهمل ورفض دوما اعتبار التوجه إليها رهاناً استراتيجياً يبدل أولوياته من التعويل على الخارج إلى الاعتماد على الداخل، فلا عجب أن يكون قد تعامل معها دوماً بطرق انتقائية، جزئية ومتقطعة، لا تخدم وحدتها وتقوي لحمتها، بل تستهدف اختراقها وإفسادها بالمال السياسي وألاعيب ومناورات سلطوية وشخصية، فلا عجب أن يكون الائتلاف قد تحول إلى عبء على العمل الثوري وعالة على الثوريين، حال بينه وبين أن يكون مؤسسة عمل وطني، فاعلة ومنتجة، تقف بجدارة على رأس الثورة.
بالهوة السياسية والتنظيمية التي فصلت الائتلاف عن الشعب، وجد الثوار أنفسهم مرغمين على ملء الفراغ السياسي الذي واجهوه، طرفاً يتحمل العبء الأكبر من مقاومة النظام، وشرعوا يطورون رؤى خاصة حول الصراع ضد الأسدية، ويسدون الثغرات في علاقات الائتلاف معهم، ويتداركون القصور في سياساته ومواقفه حيال السلطة، وما تلقيه من أعباء على عاتقهم.
في هذه الظروف، تخلقت تدريجيا أجواء حتمت استكمال الجهد العسكري برؤية سياسيةٍ، تعبر عن حملته، من أركانها امتناع القسم الأعظم من القوى المقاتلة عن الاعتراف بالائتلاف ممثلاً لها وقائداً لنضالها، ورفض الامتثال لسياساته وخياراته. بذلك، تهاوت مكانته تحت وطأة ضروب من اجتهادات سياسية جزئية ومليئة بالتخبط، تبنتها تنظيمات عسكرية ومقاومة متنافسة غالباً، أسهمت في البلبلة التي أنتجتها مواقفه وسياسات التنظيمات التي وقف عاجزاً حيالها، ليس لديه ما يقوم به غير كلام مكرر لا يسمن ولا يغني.
بيد أن الأشهر الأخيرة شهدت تطورات مهمة تشير إلى تبدل في مواقف التنظيمات، عبر أولها عن نفسه على الصعيد التنظيمي من خلال عمليات تجميع القوى المقاتلة في منطقة واحدة، التي قررت الانضواء في غرف عمليات مشتركة، أطلقت على المنتسبين إليها اسم “جيش الفتح”، وقد خاض نموذجه الأول، بنجاح لافت، معركة إدلب وجسر الشغور ومعمل القرميد والمسطومة، فأخذت أمثولته تنتشر في كل مكان، نمطاً تنظيمياً يعد بإحراز انتصارات سريعة على النظام. واليوم، تغطي “جيوش الفتح” معظم أرجاء سورية، فإن اتحدت تحت قيادة مشتركة وفرت للثورة نواة جيش وطني، هو مناط الأمل ومدار الرهانات الوطنية، والقوة التي ستحمل الثورة إلى دمشق الحرة. بينما تجلى ثاني التطورات في ميل جلي لدى تنظيمات إسلامية مقاتلة كثيرة إلى القبول بالخيار الانتخابي الحر وسيلة لحسم مصير السلطة السورية بعد الأسد، لاعتقادها أن الشعب السوري سيختارها بملء حريته، وأنه لا داعي لاستعمال القوة، للوصول إلى الحكم بعد الانتصار.
“الاعتراف الدولي بحق الشعب في أن يكون له ممثل آخر غير النظام” ثمة ساحة تسمح باستكمال وإنضاج رؤية سياسية ودور ثوري يتفق مع التطور الذي يشهده الصف المقاوم، ويغطي، في الوقت نفسه، الفراغ القائم بين الشعب والائتلاف، فيتخلص من يغادر صفوفه من مشكلتين: تحمله مسؤولية أخطاء لم يشارك في اقترافها بل قاومها، تجعله فرداً في مجموع مبهم لا ملامح له، ولا هوية تميزه، يفتقر إلى الخبرة والمعرفة، هو فيه رقم كغيره، يقبل ما يحدث بالنيابة عنه وباسمه، وإلا لما بقي في الائتلاف. المشكلة الثانية، عجزه عن المشاركة الفاعلة في التطورات الحقيقية خارج الائتلاف، السياسية والعسكرية.
بالخروج من الائتلاف، يضع المرء نفسه في موقعٍ يتيح له الارتباط بالحراك الجاري على الأرض، وتطويره في اتجاه وطني، وسد الفجوة بين تنظيم عاجز ومثقل بالترهل، يتوهم السذج من أعضائه أن انتماءهم إليه يجعل منهم قادة تاريخيين للثورة، وبين الشعب السوري الباحث عن جهة يضع يده في يدها، من أجل خير سورية وخلاصها من مأساة رهيبة، يتعايش الائتلاف معها ويلعب دورا لا يستهان به في استمرارها، وصارت ممارساته جزءاً منها.
ثمّة بوادر قيادة بديلة تتخلق خارج صف “الممثل الشرعي” العاجز والهامشي التأثير، إن ساندها أصحاب الخبرة والتاريخ من الثوريين السوريين، التقى الحراك العملي المتصاعد مع ما هو بحاجة إليه من رؤى ومواقف، وتكاملت، لأول مرة، بعد قيام الثورة حركة الواقع في صعيديه العملي والنظري، وانتقل مغادر الائتلاف من العجز إلى الفاعلية، ومن الانطمار تحت ركام خلافات سخيفة، تتصل بتكتلات ليس في برامجها أي محل للوطنية، إلى شمس الحرية ونسيمها المنعش، ووجد نفسه، أخيراً، في موقع صحيح يمكنه من خدمة شعبه ووطنه.
هناك عملية فرز شهدها الائتلاف خلال العام الماضي، وهناك كتلة وازنة من أعضائه تستطيع، بخروجها منه، أو تغيير دورها فيه، انتشال العمل الوطني من الهاوية التي أسهمت سياساته وقياداته في دفعه إليها، ولم يحل دون قضائها على الثورة غير تضحيات الشعب الذي صحح أخطاء قيادته المزعومة بزكي دمائه، من دون أن تفهم إلى اليوم معنى ذلك، أو تقلع عن اقتراف جميع أنواع الأخطاء الكبيرة والصغيرة، أو تستخلص العبر الصحيحة من ممارساتها الكارثية.
العربي الجديد _ وطن اف ام