قبل سنة من الآن كان تنظيم الدولة الإسلامية في وسائل الإعلام العالمية عبارة عن مجموعة من الأشرار والمجانين لا هدف لهم في الحياة سوى البحث عن الموت وزرع الخراب في رقعة محدودة جغرافيا.
لكن في غفلة من الجميع، وبينما كان العالم منشغلا ببطولة كأس العالم لكرة القدم بالبرازيل، شنّ هؤلاء «المجانين» هجوماً خاطفا صاعقا انتزع جزءا كبيراً وهاما من جغرافيا العراق من حكومته المركزية، فوضع «المجانين» المنطقة والعالم أمام أخطر معضلة سياسية وجغرافية وعسكرية منذ الحرب العالمية الثانية.. تجاوزوا خطر الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي خلال الحرب العالمية الثانية، وتجاوزوا الأزمة التي ترتبت عن الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، وفرضوا منطقا جديدا مختلفا وأكثر خطورة.
أن ينشأ تنظيم بهذه الخطورة والغرابة وسط الفوضى التي تعيشها المنطقة العربية، أمر وارد ومفهوم. لكن أن يتمدد بهذا الشكل وهذه الثقة في النفس والجرأة على الحركة، فهذا ما لا يمكن تقبله بسهولة.
من الخطأ المزج بين العراق وسوريا واعتبارهما حالة واحدة في تفسير تغوّل هذا التنظيم. بل هما حالتان مختلفتان لكنهما تكملان بعضهما في الاتجاه الذي نشهد منذ قرابة السنة.
في العراق دولة فاشلة ونظام حكم طائفي بائس أضراره أكثر من منافعه على شعبه والإقليم ككل. ليس من الخطأ الجزم بأن الانسحاب الأمريكي في 2011 هو أحد الأسباب المباشرة في وصول العراق إلى الصورة التي هو عليها اليوم. كان احتلال العراق خطأ تاريخيا، لكن الانسحاب كان هو الآخر خطأ كبيراً لأنه توّج تسليم العراق إلى إيران وأتمَّ فتح أبواب الفتنة إلى آخرها. وتنظيم الدولة هو أحد أوجه هذه الفتنة.
لم يكن انهيار الجيش والقوى الأمنية العراقية العام الماضي في الموصل مفاجئا إلا من حيث سرعته. ولم يكن الانهيار الثاني في الرمادي قبل أسبوعين مفاجئا إلا من حيث كون «أبطاله» لم يتعلموا شيئا من درس الموصل.
لم يكن السقوط المكرر مفاجئا لأن الجيش العراقي الذي من المفروض أن يحمي الأرض والشعب لم تكن تتوفر فيه مواصفات جيش وطني. كان أقرب إلى جيش طائفة وفئة دون أخرى. فرار جنوده وضباطه من الموصل (ثم الرمادي) فضيحة وعار سيلاحقان الى الأبد كل من له ذرة مسؤولية في تلك المشاهد. لقد كانت أشبه بصور فرار حراس شركة أمام سرّاق بالليل!
الجو العام في البلاد كان ـ ولا يزال ـ يفوح طائفية وحقداً وكرها تُوِّج في كثير من الأيام قتلا وذبحا. الدولة بمكوناتها الإدارية والسياسية فشلت في كل شيء وتفننت فقط في الطائفية والفساد.
هل بعد هذا كله نستغرب زحف «داعش» بتلك السرعة والسهولة ووصوله إلى أبواب بغداد؟
سيحتاج العراق وحلفاؤه من الولايات المتحدة والدول الأوروبية والعربية إلى معجزة للعودة الى ما قبل يونيو (حزيران) 2014. سيحتاج الأمر إلى تطهير العراق من طائفيته، من أحقاده العميقة ومن تناقضاته الخطيرة وفساده المستفحل قبل أن تبدأ معركة القضاء على «داعش». لن يمكن محاربة هذا التنظيم في العراق والأخير بكل تلك التناقضات التي هي في حقيقة الأمر الحطب الذي تشتعل به نار «داعش».
في سوريا يختلف الأمر في الأسباب والمقدمات، لكنه يتشابه في النهاية. نظام بشار الأسد احتاج ويحتاج إلى حد أدنى من إرهاب «داعش».. حد أدنى يصيب العالم بالذعر ولا يهدد نظام الأسد.
يجب القول أن النظام السوري وظّف «داعش» جيداً واستفاد منه إلى أبعد الحدود، إذ لولا الأخير لمَا استمر هذا النظام في الحكم أكثر من أربع سنوات من الحرب على أبواب قلاعه.
وقد اجتهد هذا الأخير كثيراً في سبيل تحقيق هذه المعادلة المعقدة فأصاب في أكثر من موقع أكثر من مرة: قضى على الطموحات الشرعية لفئات واسعة من الشعب السوري في الحرية والعدالة والديمقراطية، ضَمِن استمراره، أقنع الغرب بأن بعده «داعش» والطوفان، فرض نفسه مفاوضا لا مفر منه في أي تسوية سياسية واستراتيجية في المنطقة تنتهي بأي حل عدا رحيله.
اليوم عقدة الأسد في منشار الآخرين تشل حركتهم وتحد من هامش مناورتهم تجاه «داعش» وغيره. هذه الصعوبة تدفع الآخرين إلى الإقرار على مضض ببقاء الأسد في أي تسوية.
صحيح أن الخطاب في الشرق والغرب لا يذكر الاسد بالإسم، لكنه لا يحتاج لذلك أصلا عندما يتكرر على لسان كثير من المسؤولين الإقليميين والدوليين أن «أيّة تسوية في سوريا يجب أن تضمن بقاء مؤسسات الدولة». ومؤسسات الدولة هنا هي الرئاسة والجيش والمؤسسات الأمنية ومن فيها أو على رأسها.
ليس سراً أن العالم لم يعد يجد غضاضة في التعايش مع بشار الأسد ونظامه، يحتاج فقط إلى قليل من الشجاعة والجرأة لتجاوز الإرباك والإقرار بذلك. يحتاج العالم إلى حسم أمره من الأسد: هل يريده؟ كيف؟ لماذا؟ إلى متى؟ ماذا بعده؟ وما مصير الجرائم التي ارتكبها بحق السوريين.. وغيرها من الأسئلة.
مثل العراق، ستحتاج سوريا إلى معجزة وسنوات طويلة لكي تعود إلى ما قبل تلاقي مصلحتي الأسد و»داعش» على حساب سوريا وبقية العالم.
ولأن زمن المعجزات ولّى، سيبقى العالم متفرجاً دون أن يغفل واجب إصدار البيانات والتهديدات الموسمية.
المصدر : القدس العربي