ما زال “الضجيج الطائفي” يحكم الحوارات والتعليقات التي تخص “النخب” السورية، فقد أصبح التوصيف الطائفي عادة، وبات الاتهام بالطائفية مكرورة يومية. بات المجتمع السوري طوائف وليس شعباً، وتُدفع الثورة إلى أن تكون ضد طائفة، وليس ضد نظام نهب المجتمع واستبدّ عقوداً أربعة، في الوقت الذي يُغطى على طائفيةٍ أخرى علنية، فقط لأنها تبدو ضد النظام.
تشي السهولة في توصيف النظام بطبيعة الوعي الذي يحكم تلك “النخب”، وتوضّح غياب الفهم، والانطلاق من الغرائز. حيث يحلّ الشكل محلّ المضمون، ويحل رد الفعل محل الفعل، أو تبرير الفعل برد الفعل. وليس هناك ميل للبحث والتدقيق، وتقصّي الجذور. ولا حتى فهم سبب المواقف وجذورها، وهل هي نتيجة تكوين “جوهري”، أو هي عرض نتج عن ظروف واقعية. هنا، يسود منظور “جوهراني” يرجع كل شيء إلى “أصل ثابت”. فالنظام وفق هذا الفهم طائفي، وبالتالي، كل الطائفة طائفية. حاولت مراتٍ تحديد معنى الطائفية، وطبيعة النظام. لكن، لا بد من تفكيك أكبر، لأن الهوس يتصاعد مع تعمق الأزمة، خصوصاً مع انزياح “النخب” خارج سورية. وكذلك نتيجة تضخم دور القوى الأصولية وفاعليتها، ليبدو أن هناك من يسير مع “الموجة”، أو يتشوه نتيجتها، فيخضع لمنطقها، أو يقبل بها نتيجة موقف “غريزي” من النظام، نتج عن استبداد طويل، وحوّل التحليل العقلي إلى غريزة.
لا شك في وجود طائفيين وقوى طائفية، فمن يتمسك بـ “دينه” أو “مذهبه” ضد الآخر ولنفيه طائفي. ومن يستغلّ الدين والطائفة لا بد من كشف ما يفرض الحاجة لهذا الاستغلال. ومن يتلوث طائفياً يجب أن يكشف السبب الذي يدفعه إلى ذلك. ما يبدو لافتاً هنا كيفية الرد على “الحالة الطائفية”، كيفية التعامل معها. حيث تتمثل مواجهة الطائفية في تضمن طائفية مقابلة، بمعنى أن طائفية طرفٍ تبرر طائفية طرف آخر يعتقد أنه في مواجهته. إن تحديد مجموعة أو طائفة ذاتها كونها طائفة في الصراع الواقعي يعني أنها تمارس الطائفية. فمنظورها طائفي، يرى الذات انطلاقاً من التكوين الطائفي، لا من التكوين القومي، ولا من التكوين الطبقي أو الديمقراطي أو المواطني.
هل علينا أن نفسر ذلك من منظور “العدة الأيديولوجية” نفسها، أي القائمة على تمييز البشر على أساس الانتماء لدين أو طائفة؟ هنا تكون طائفية ذاك الطرف قد انتقلت إلى وعينا، فأصبحنا نفكر عبرها. وبهذا، نكون قد أصبحنا طائفيين، ودخلنا الصراع على الأرضية نفسها، فأنجحنا طائفية الآخر، ودخلنا صراعاً لا أفق له. حيث إن مواجهة طائفية طرف لا تنجح بطائفية مقابلة، بل يؤسس ذلك تناقضاً ثنائياً لا تجاوز فيه، بل ينحكم لتناحر طويل الأمد، وبالتالي، لتفكك وتفتتٍ مستمريْن، لأن الانطلاق من التقسيم الطائفي والبناء عليه يعني استدعاء الماضي في شكله الكاريكاتوري الذي بلور الطوائف، وأوجد أحداثاً أسطورية تؤسس الاحتقان وتعزز الصراع.
بمعنى أن المنظور سيكون طائفياً، ما دام قد أسّس على رؤية الآخر طائفياً، وبنى ذاته كطائفي. وهذا يناسب “الصراع الغريزي”، لأنه يغطيه بإرث طويل من تعبئة طائفية يدفعها إلى حدها الأقصى، أي حد الصراع الفعلي، فتتحوّل الغريزة إلى عنف دموي، يعبّر عن الاحتقان الذي نشأ نتيجة الصراع مع النظام، وسحق النظام الذي أوصل إلى بناء حالة من الرعب الداخلي الذي ينقلب ميلاً لوحشية مقابلة، هنا تأتي الطائفية كتغطية لذلك.
من منظور حديث (أو حداثي، أو ماركسي، أو يساري عموماً) تُواجه الطائفية بفهم أساس نشوئها، ليس انطلاقاً من فهم مثالي، ينطلق من “جوهر أبدي” يحكم الظواهر، بل انطلاقاً من فهم واقعي، يبحث في الأسباب التي أوجدتها، والظروف التي أفضت إلى أن تنشأ وتصبح شكلاً للصراع، الذي هو ليس صراعاً دينياً أو طائفياً، في كل الأحوال، وإنْ يتخذ هذا الشكل.
إذا أردت مواجهة طائفي فلا تصبح طائفياً مضاداً. تُصبح ذاته، تصبح هو بالذات.
العربي الجديد _ وطن اف ام