يتركز النقاش في الوضع السوري على المشهد السياسي والعنفي السائد، وعلى القائمين عليه في النظام والمعارضة، وحملة السلاح والثوار والناشطين، فضلاً عن القوى الإقليمية والدولية إلخ. ويغيب في زحمة هذا النقاش «السوريون العاديون»، الذين يشكلون «كتلةً منسيةً» ومهملةً على رغم استمرار التحدث باسمها. إذ يقيم داخل البلاد أكثر من 18 مليون سوري من دون أن يكون لهم حضورٌ يناسب كتلتهم العددية الكبيرة، وإن حضر ذكرهم فعلى سبيل الشفقة أو الندب أو التخوين، أو استغلال المعاناة والمزاودة السياسية.
من الضروري إعادة الاعتبار لهذه «الكتلة المنسية» وفهم مواقفها وسلوكياتها وآمالها، لما لذلك من أهميةٍ في كشف جوانب من المشهد السوري المعقد. فنسبةٌ كبيرةٌ من أبناء «الكتلة المنسية» لا تحدد خياراتها من خلال قربها أو بعدها أو موالاتها أو معارضتها للنظام. وبعيداً من الشعارات الخطابية الشائعة، لا تشكل الحرية أو دعوات التغيير السياسي هموماً مركزية لهذه الكتلة، بل تتمحور أولوياتها حول السلامة الشخصية، وتوفير الحاجات اليومية، والبقاء على قيد الحياة، والخلاص من التدهور الحاصل. وهذا ليس جُبناً ولا تخاذلاً كما يحلو للبعض أن يقول، بل ظاهرةٌ اجتماعيةٌ ملحوظةٌ وقت الأزمات، حيث يتمسك ويحتفي معظم الناس بالحياة، من دون اتخاذ مواقف صارمة تجاه الأحداث بخاصة السياسية منها، في حين أن التغيير (وقمع التغيير) يقع عادةً على عاتق شريحةٍ صغيرةٍ نسبياً بالمقارنة مع مجموع الشعب.
لكن كون هذه «الكتلة المنسية» ذات مواقف غير فاعلة أو حيادية في العلن لا يعني أنها بقيت بمعزلٍ عن آثار العنف. فبناءً على آخر الإحصاءات الصادرة عن «المفوضية العليا للاجئين» فإن حوالى 8 ملايين من السوريين تركوا بيوتهم هرباً من الموت، وصاروا نازحين داخليين في البلاد، فيما نزح ما يقرب من 4 ملايين سوري إلى خارجها، غالبيتهم ليسوا ناشطين أو فاعلين في الشأن العام. وفي ملاحظةٍ للبروفسورة داون الشطي، من مركز دراسات اللاجئين في جامعة أكسفورد، فإن من المثير للاهتمام أن عدداً من نزح داخلياً ضعف من نزح خارجياً، فنسبةٌ لا يستهان بها من السوريين من حلب ودير الزور وإدلب وغيرها بقيت داخل البلاد، متعايشةً مع «السوريين الآخرين» في اللاذقية وطرطوس ودمشق وغيرها.
بكل تأكيد فهذا الطرح ليس مثالياً، فهو لا يحلل الأسباب والخيارات التي واجهها النازحون قبل نزوحهم، ولا يوضح إن كانت لديهم حرية اختيار مكان النزوح أساساً، أو القدرة المادية اللازمة للخروج من البلاد. كما أن البقاء في سورية لا يعني عدم الرغبة في هجرها، بخاصة أن أسباب الهجرة لا تتعلق بالضرورة بالموقف من النظام، بل هناك الوضع العام المتردي وقلة فرص العمل وارتفاع البطالة. لكن بكل الأحوال فإن الإحصاءات تشير بالنتيجة إلى أن سوريين مدنيين «مختلفين» يعيشون مع بعضهم من دون مشاكل تذكر، ما يعكس حضوراً لثقافة التعايش التي تعتمد على المصلحة البراغماتية المتبادلة، فضلاً عن حدٍّ أدنى من القيم المشتركة.
تكمن أهمية ما سبق في أنه يُحرج السردية الطائفية التي باتت، ببساطتها واستشراقيتها، تحتل موقع الصدارة خلال السنتين الأخيرتين، وهذا ما قد يفسر عدم اهتمام الإعلام والعالم الافتراضي بهذا الجانب المخفي من المشهد السوري كونه لا يتوافق مع الصورة النمطية السائدة. فمنذ أن دخل الصراع مرحلة الاستعصاء اندفعت القوى الداخلية والإقليمية إلى تضخيم سرديةٍ طائفيةٍ تتلاعب بالهويات الدينية/الإثنية السورية، وذلك في محاولةٍ للحشد والتأجيج.
لكن على رغم كل الشحن (عبر الخطاب الموجه والشعارات المستفزة والفيديوات المسربة والجرائم الشنيعة) فإن حال السوريين داخل البلاد على مستوى «الكتلة المنسية» لا تستقيم مع السردية الطائفية، حيث نرى أن نسبةً كبيرةً من السوريين المنتمين إلى خلفيات متعددة لا يعيشون فقط مع بعضهم، بل يلجأون إلى بعضهم البعض في زمن المحنة، بعيداً من السلطة والسلاح، وفي ظل مبادرات أهليةٍ إغاثيةٍ عفويةٍ رغم نطاقها المحدود.
هذه ليست محاولة خطابية لبثِّ الأمل الكاذب، أو لغضِّ النظر عن ملف الإجرام والطائفية في سورية. فقد شهدت البلاد جرائم مريعة بحق المدنيين ارتكبتها بالدرجة الأولى القوات الموالية للأسد، فضلاً عن قواتٍ تدّعي معارضة النظام وتسير على نهجه. أما الطائفية فموجودةٌ تؤججها محاور إقليمية، والجماعات السورية لديها انطباعاتٌ مسبقةٌ تشوبها اللاثقة ومشاعر الخوف والتعالي تجاه بعضها، كما أن التعايش بينها يرتكز على التسامح الأهلي والقبول الشكلي، وليس على أسس المواطنة الكاملة والمتساوية.
لكن على رغم ذلك، وبعيداً من جعجعة السلاح، فإن واقع الحال على مستوى «الكتلة المنسية» يحمل بذوراً تدعو الى التفاؤل، ويشكل أرضيةً أساسيةً ومهمةً لا يجب إنكارها أو إهمالها أو تركها كي تتراجع وتتلاشى، بل لا بد من استثمارها والبناء عليها لتغدو ثقافةً حاضنةً لكل السوريين، في زمن العنف، وفي زمن السلم الذي سيأتي يوماً ما.
لدى الجماعات السورية بكل انتماءاتها، إن توافرت البيئة الملائمة، القدرة على النهوض أهلياً ومدنياً. لكن توفير تلك البيئة لا يمكن أن يتحقق وحده، بل لا بد من دورٍ أساسيٍّ تلعبه النخب التي آنَ أوانُ خروجها من خندق الاستقطاب القائم، كي تخلق مرحلةً جديدةً تأخذ في الاعتبار «الكتلة المنسية» وعموم السوريين بغض النظر عن مواقفهم السياسية. ويمكن القول إن النخب المعارضة التي تؤمن بالتغيير الحقيقي معنيةٌ وقادرةٌ أكثر من غيرها على تبنّي هذه المقاربة.
قَدَرُ السوريين العيش جنباً إلى جنب على رغم الألم وعمق الجراح، ولن تستطيع أصوات المتطرفين مهما عَلَتْ أن تحوّل الغالب الأعم من السوريين إلى وحوش، أو أن تقتلع مكونات سكانية أصيلة من الأرض السورية. أما القتلة وأمراء الحرب وتجارها، فمهما اختلفت هوياتهم وأديانهم ومذاهبهم وأسماؤهم، فهم لا ينتمون سوى إلى عصابةٍ واحدة، هي عصابة الإجرام التي لا بد من نبذها وعرضها على عدالةٍ تقتصُّ منها، علَّ الحق يعود إلى أصحابه ولو بعد حين.
المصدر : الحياة