لم يمر مشهد (تحطيم الحدود) بين العراق وسوريا على يد داعش على أيّ منا دون أن يرف قلبه، أو تهتز روحه، لما تحمل هذه الفكرة من رمزية عالية وحضور واضح في نفوس وقلوب أيّ منّا قبل عقله وأفكاره؛ إذ ارتبطت هذه الحدود -بالنفوس- بحقبة ما بعد كولونالية حملت معها الفساد والاستبداد والهزيمة والتبعية للغرب.
هذا التحطيم ليس أكثر من ورقة دعائية لداعش، ولا تعامله داعش على أنه مشروعها الوجودي؛ بل قد يكون مشروعها، أو يؤدي ما تقوم به. العكس تمامًا: تثبيت حدود جديدة للمنطقة وتقسيمها، سواء أكان ذلك بإرادتها وعملها، أو كان بدون ذلك؛ ليظل مشروع داعش هو تثبيت دولة قوية سياسيًا وعسكريًا، ضمن حسابات التنظيم الإقليمية والجيوسياسية والعسكرية، وتحركها بين الحدود في الفضاء الهلامي ما بين هذه الحدود هو مجرد تحرك لخدمة هذا الهدف.
“وثن التمر”
تعامل داعش فكرة “الوطن” على أنها وثنٌ لازم التحطيم، لكن هذا الوثن هو شيء أشبه بـ “وثن التمر”: تحطمها وتشتمها وتعتبرها “وثنًا” عند الحاجة، لكنها تأكل منها وترضى بها وتثبتها في أوقات أخرى.
خطاب داعش الدعائي الإعلامي يقوم على كونية التنظيم، وعدم ارتباطه بمنطقة معينة مقابل عالمية الإسلام، وتقديم الدين على القومية -بحسب ما يفترض-، في تجاوز للحاجة النفسية والروحية للإنسان لارتباطه بأرض ومدينة -وهذه فكرة إسلامية ثبتها الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال حديثه عن مكة-، واختيار مجتزئ يشوه النصوص والواقع على حد سواء.
تستفيد داعش من هذا الخطاب بالدرجة الرئيسة في التجنيد وحشد الصفوف؛ لما تحمله هذه الفكرة من ضخ نفسي، وبعد رمزي عالي يحفز الشباب لاستعادة أمجاد قديمة وأحلام ماضية.
حشد مجموعة من الأشخاص المأزومين هوياتيًا، مع قيادة عاشت عمرها في الصحراء، ضمن بنية فكرية تعزز للانفصال عن الأوطان والارتباط بـ “الطوبى” المتخيلة، أدى لتشكيل تنظيم من “شذاذ الآفاق”؛ وهو ما يفسر تعامل داعش مع التاريخ -من خلال تدمير المتاحف أو الآثار، دون الشعور بقيمة حقيقية لها- أو تدمير الشكل الهوياتي للمدن التي تحلّ بها، كما حصل من خلال تدمير مقامات الأنبياء التي كانت تشكل بعدًا هوياتيًا لأهل الموصل، دون أن يكون لها بعد (شركي) بحسب ما بررته داعش؛ فلم يأتوا على قوم كانوا يعبدون آثار بابل، أو يتوسلون بمقام النبي يونس!
سايكس بيكو داخلية وخارجية
بالمقابل، فإن داعش داخليًا قائمة على تقسيم مبني على “القوميات” و”العرقيات”، بشكل يعاكس الدعاية المعلنة له؛ فقدتحدث الأستاذ حسن أبو هنية عن عملية “عرقنة للتنظيم”، في بنية القيادات، وأهداف التنظيم؛ إذ إن غالب مجلس الشورى والمجلس العسكري للتنظيم هم من العراقيين، بينما تم توزيع المهاجرين بالغالب بحسب قومياتهم كذلك؛ فيلاحظ على سبيل المثال: استلام الملف الإلكتروني للتنظيم والنشر على تويتر لما يسمون “الجزراوية”، كما يحضرون كثيرًا في العمليات الانتحارية، بينما يلاحظ وجود التونسيين على الحواجز على سبيل المثال، ووجود السوريين في مناطقهم بسوريا كولاة للتنظيم هناك، بالإضافة للاستفادة من الخبرات الأجنبية في الحضور الدعائي، وخبرات القادمين من القوقاز في العمليات العسكرية المعقدة، وأبرزهم عمر الشيشاني.
هي سايكس بيكو أخرى إذن داخل التنظيم، بعد أن قال إنه يعمل على تحطيمها خارجًا.
ولم يقتصر الأمر على هذا الشكل، فإن معارك التنظيم، العسكرية لإعادة تشكيله السياسي، هي إعادة لتشكيل ورسم الحدود، وداعش تعي ذلك جيدًا من حيث اختيار معاركها، والتوقف عند الحدود التي تعلم أنها لا يمكنها تجاوزها؛ فمع تقدم التنظيم في الجانب العراقي من ناحية الموصل، ثم الأنبار، تقدمت باتجاه كركوك في معركة رمزية دون أن تتجاوزها شمالًا، كما توقفت عند بغداد جنوبًا، وحددت نفسها بمساحة محددة عراقيًا، وتكرر شكل الأمر نفسه في الجانب السوري، بتوقفها عند حدود دمشق وعدم مهاجمتها لها، أو اقترابها من الساحل على سبيل المثال.
داعش، بعلمها أو بغبائها، لا تحطم الحدود بهذه الطريقة، ولا “تبقى وتتمدد” كدولة إسلامية؛ لكن هذا الحراك والمعارك غير المحسوبة، وفي هذه المرحلة التاريخية التي يتم بها الحديث عن دويلات وتقسيم، وظهور شكل أو بوادر لهذا الموضوع -أبرزها كردستان- هي أشبه ببالون يجمع كثيرًا من الهواء ليكبر ميدانيًا -وإعلاميًا- لكنه حين ينفجر سيتقسم ويقسم كل شيء معه إلى أشلاء، دون أي معنى أو اعتبار لكل الخطاب الرومانسي لـ “تحطيم الحدود” حينها.
المصدر : صحيفة التقرير