لم تكن عملية التفجير في مدينة سوروج التركية مفاجئة، فالسذاجة وحدها يمكن أن تفترض إمكان التعايش بهدوء ووئام مع تنظيم “داعش”.
وليس الغليان في المجتمع الكردي التركي مفاجئا، فإنكار حقائق التاريخ وحده يمكن أن تغري أنقرة بالاعتقاد بأن أكرادها نسوا قضيتهم إلى حدّ منع أنفسهم من انتهاز المناخ الإقليمي المضطرب للمطالبة بدولتهم.
والأكيد في الحالين أن تركيا لم تكن ساذجة ولا تعمّدت تعمية الحقائق، بل اعتبر رئيسها أن مشروعه الداخلي لن ينجح ويكتمل إلا بـ”عملية السلام” التي صمّمت لتؤدّي إلى مصالحة تاريخية مع الأكراد، لكن هؤلاء وجدوا أن مفاعيل الأزمة السورية بما فيها من فوضى مسلحة وتفكك دولة وخريطة ومجتمع تبدو أكثر استجابة لطموحاتهم وأكثر إيحاء لهم من خطة أردوغان.
أما فيما يخصّ “داعش”، الذي لم يولد في الكنف التركي، فالأرجح أن أنقرة راهنت كما راهن سواها على إمكان استخدامه، ولعلها رأت في مهادنته أسلوبا يسهّل احتواءه وتوجيهه.
تغيّرت الحال الآن، ولم تستطع السياستان أن تصمدا طويلا. ففي الانتخابات الأخيرة والنتيجة التي أحرزها “حزب الشعوب الديمقراطي” والاحتفاء الاستثنائي به وبزعيمه صلاح الدين ديمرطاش من جانب الإعلام القريب من النظامين السوري والإيراني، كانت الإشارات واضحة إلى معالم التموضع الكردي التركي.
إذ أن “حزب الشعوب” يعدّ بشكل أو بآخر جناحا وسطيا لـ”حزب العمال الكردستاني” أو امتدادا جديدا له، بمعرفة ومباركة من زعيمه عبد الله أوجلان، وبالتالي فهو يجمع بين بُعدَين:
أولهما، التعاطف مع الجناح العسكري الذي ينشط مقاتلوه في جنوب شرق تركيا فيما يرابط قسم كبير منهم في جبال قنديل، ويتلقّى هذ الجناح دعما من أطراف إقليمية متناقضة (النظامان السوري والإيراني من جهة، وإسرائيل من جهة بحسب بعض التقارير).
أما البُعد الآخر فهو التناغم مع الجناح السوري لـ”الكردستاني” المتمثّل بـ”حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي وزعيمه صالح مسلم، وتتفرّع عن هذا الحزب “وحدات حماية الشعب” التي قاتلت “داعش” في عين العرب/ كوباني وطردته من تل أبيض وتقاتله حاليا مع قوات النظام السوري في الأجزاء التي سيطر عليها من محافظة الحسكة، وكان هذا الحزب دائما ولا يزال على علاقة مع دمشق وطهران.. هذا هو إذن المدى الحيوي لـ”حزب الشعوب” الذي بات واجهة أكراد تركيا وأول ممثل لهويتهم في البرلمان.
لم تنس تركيا ولا أكرادها على مدى مئة عام الماضية سلسلة المعاهدات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وكيف قسمت أراضي ورسمت حدودا.
كان “سايكس -بيكو” أكثرها شهرة، وتخشى تركيا “سايكس -بيكو” جديدة قد تنال من وحدة أراضيها الحالية إذا كان لـ”الدولة الكردية” أن تبصر النور بعدما ألغيت.
ورغم أن الدول الأربع (إيران والعراق وسوريا مع تركيا) التي ورثت كردستان قطعا مبعثرة، أجمعت دائما على معارضة نشوء دولة كردية، إلا أن التغيّرات الكيانية الحاصلة في العراق وسوريا، وغلبة المصالح على التوازنات لدى إيران، أعادت الشأن الكردي وقودا للصراعات بين هذه الدول.
في هذه الأثناء، تلعب الولايات المتحدة دورا يكتنفه بعض الغموض، فهو يتقلّب باستمرار مستخدما الأكراد للضغط على بعض الأطراف الإقليمية ومنها تركيا.
لكنه وجد أيضا في الأكراد جهة يمكن العمل معها لمحاربة “داعش”، سواء في العراق حيث كانت مساهمتهم حاسمة في بعض المناطق أو في سوريا حيث يقبلون على هذه المهمة مدفوعين بطموحهم لإقامة دولة أو كيان مستقل متاخم للحدود مع تركيا ويمكن أن يكون لديه تواصل جغرافي مع إقليم كردستان العراق. إذا، فقد أصبح الخطر داهما بالنسبة لأنقرة.
تزامن التعثر في “عملية السلام” الداخلي مع الأكراد مع تفاقم مشكلة “داعش” وظهور تحالف دولي لمحاربته. ففيما كان أردوغان يأمل بتحالف سياسي مع الأكراد وجد نفسه في عداء سافر معهم، وتضخّم لدى هؤلاء شعور بأن الحكم يدعم “داعش” لاستخدامه ضدّهم، خصوصا في سوريا.
واقعيا لم تكن هذه سياسة حكومية، لكن يرجّح بأنها كانت من الخيارات الاستخباراتية، باعتبار أن “داعش” أنشأ واقعا لابدّ من التعامل معه إنْ لاستخدامه أو للحدّ من شروره.
هذا حساب خاطئ، لذلك أزفت نهايته مع تكاثر الضغوط الأميركية على أنقرة. وعندما بدأت التضييق على التنظيم ولم تساعده لاستعادة معبر تل ابيض، اهتزّت التبادلية بينها وبينه، فكانت بداية القطيعة ثم بداية الحرب.
المصدر : صحيفة الاتحاد