إذن، لم تُخفِ أنقرة عداءها للتنظيم الإرهابي، لكنها لم تعتبره خطراً داهماً ومباشراً، وقدمت دائماً الخطر الكردي بشقيه؛ سواء أكان حزب العمال الكردستاني (PKK) أو جناحه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، واللذين تضعهما أنقرة أيضاً على لائحة الإرهاب، كما داعش.
إضافة إلى ذلك، أعلنت الحكومة التركية مراتٍ استعدادها للانخراط العملياتي والميداني في الحرب الكونية ضد داعش. ولكن، وفق أسس وقواعد صحيحة، وحتى واقعية ومثمرة، تلحظ مواجهة المرض، وليس العَرَض فقط، بمعنى أن لا معنى أو جدوى من مواجهة داعش من دون مواجهة نظام بشار الأسد؛ كونه أصل الإرهاب أو جذره، وهو منتج البيئة الحاضنة التي أنتجت داعش وأخواته في المنطقة.
وفي السياق نفسه، قالت تركيا، دائماً، إن أية حرب ضد داعش لن تنجح من دون إقامة منطقة آمنة، شمال سورية، تتمتع بحماية جوية تسمح بإقامة مخيمات إيواء للاجئين، كما قواعد للمعارضة السورية المؤهلة، ليس فقط لقتال داعش، وإنما لقتال النظام أيضاً، ومنعه من الاستفادة أو تحقيق المكاسب، جرّاء التركيز أو الانشغال بقتال التنظيم المتطرف الذي هو صنيعته في كل الأحوال، بشكل مباشر وغير مباشر.
تعرّضت أنقرة، نتيجة موقفها، لحملة ابتزاز وتشويه دولية غربية، متعددة الأشكال والمستويات؛ من اتهامات بدعم داعش وتوجيهها، إلى دعم المعارضين في الداخل؛ لإسقاط حزب العدالة والتنمية وحكومته، بل وعهده بشكل عام، إلى اللعب بالورقة الكردية، سواء في تركيا أو في سورية، والإيحاء للسلطات التركية بأن رفضها الانخراط الفعلي، والمتقدم في الحرب ضد داعش، سيتيح الفرصة للأكراد للقيام بدور البطولة، بكل ما يعنيه ذلك من تقديم ثمن أو أثمان سياسية لهم، ليس في العراق، حيث يتصرف الأكراد عموماً بحكمة ووعي ومسؤولية، وإنما في سورية، وحتى في تركيا نفسها.
بدأ التبدل النسبي، أو بالأحرى، الحل الوسط التركي الأميركي، فيما يخص الحرب ضد داعش مع أحداث عين العرب- كوباني، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ومع إصرار واشنطن على تأجيل البحث في مصير النظام إلى أبعد مدى زمني، ضمن حوارها مع طهران حول ملفها النووي، وإصرار أنقرة على مواجهة أصل المرض، وليس العرض الداعشي، ومصلحتها في عدم ترك الساحة لخصومها، جرى التوافق على إدخال قوات البشمركة في المعركة ضد التنظيم، وعبر الأراضي التركية بمشاركةٍ، ولو رمزية، من الجيش السوري الحر. مع العلم أن تركيا استقبلت تقريباً كل أهالي المدينة، وعددهم 200 ألف، ولم تبخل عليهم بالإيواء أو الغذاء والدواء.
تبدّل آخر حصل مع أحداث تل أبيض، يونيو/حزيران الماضي، عندما نجحت قوات الحشد الشعبي الكردي في طرد تنظيم داعش، بدعم جوي أميركي تحديداً، واستغلت الأمر للقيام بتطهير عرقي في المدينة، كما في قرى وبلدات عربية وتركمانية محيطة بها، وبلغت الغطرسة حد الحديث عن إقامة كيان كردي في شمال سورية، يمتد من الحسكة شرقاً إلى ريف اللاذقية غرباً، بما يعنيه ذلك من تطهير عرقي كبير في سورية نفسها، يحرف بوصلة الثورة السورية، كما من إقامة حاجز كردي بين تركيا ومحيطها العربي والاتصال، أو حتى التوحد مع الكيان الكردي في العراق، وإيجاد منفذ مباشر له إلى البحر المتوسط، يحرم أنقرة مزايا اقتصادية، وحتى استراتيجية، والأخطر في القصة كلها أنه سيخلق سيرورة تدفع بأكراد تركيا إلى المطالبة بكيان مماثل، ولو تحت بند الحكم الذاتي.
هنا، تخلَّتْ السلطات التركية عن صمتها، وأعلنت، صراحة، أنها لن تسمح بكيان كردي شمال سورية، أو أية عمليات تطهير عرقي في المنطقة المتاخمة، بما يعنيه من زيادة تدفق اللاجئين إلى أراضيها، وفهمت طبعاً أن لا إمكانية لمحاربة هذه الأفكار الانفصالية، من دون محاربة داعش، والعكس صحيح أيضاً.
اكتملت سيرورة التحول أو الاصطدام بين تركيا وداعش، مع التفجير الذي نفذه التنظيم في مدينة سروج الشهر الماضي، وأوقع عشرات الضحايا من النشطاء الأكراد المتجهين إلى عين العرب كوباني تحديداً، وسواء كانت الجريمة جزءاً من الصدام الكردي الداعشي في سورية، أو استسهالا للهدف، فإن أنقرة فهمت الجريمة على أنها موجهة مباشرة ضدها، وإعلان حرب من داعش عليها، ولم يكن ممكناً السكوت، أو التصرف كأنّ شيئاً لم يكن.
فهمت واشنطن، من جهتها، وتفهم أن لا فرصة للانتصار في الحرب ضد داعش، من دون مشاركة تركية جدية وكبيرة، وكان الحل الوسط المتمثل في محاربة كل التنظيمات الإرهابية (وفق أجندة أنقرة)، وإقامة منطقة آمنة خالية من داعش، تتمتع بحماية جوية تركية، وحتى تغطية من المدفعية التركية، مع فتح قاعدة إنجرليك أمام الطائرات الأميركية، بما يوفر الكثير من الجهد والمسافات على طائرات التحالف.
لن تسيطر على المنطقة الخالية من داعش قوات الحشد الشعبي الكردية التي ستتوقف عن كونها رأس الحربة، أو قوات الطليعة البرية ضد داعش، بل ستدافع عن مناطقها، كما ستواجه بقية السوريين من عرب وتركمان التنظيمَ، وستكون السيطرة والقيادة الفعلية للجيش الحر، الذي لن يسمح لأية أفكار انفصالية بالمرور، كما لن يسمح للنظام بالاستفادة أو تحقيق المكاسب السياسية من الحرب الدولية والإقليمية ضد داعش. وستسمح المنطقة الآمنة كذلك بإقامة مخيمات لاستقبال اللاجئين، كما سيتم التفكير، فيما بعد، في نقل مخيمات اللاجئين المقامة حالياً في الأراضي التركية إليها.
لن يمنع التفاهم، أو حل الوسط الأميركي التركي، أنقرة من مواصلة مساعيها الإقليمية مع الرياض والدوحة لإسقاط نظام بشار الأسد، أو لإجباره على قبول إعلان جنيف نصاً، حيث لا مكان له وعائلته ومساعديه المقربين في أية عملية سياسية، وستواصل دعمها جيش الفتح في إدلب وحلب، بموازاة ما يحققه الجيش نفسه أيضاً في الجنوب، أي درعا ومحيط الشام، في انتظار القرار السياسي الدولي بالتسوية، أو إيجاد وقائع ميدانية، تستعجلها وتفرضها حقيقة واقعة على الأرض.
ربما تدفع تركيا ثمن، بل ربما أثمان، الانخراط الجدي في الحرب ضد داعش، كما التنظيمات الإرهابية الأخرى التي استغلت قتالها التنظيم لشرعنة نفسها، فيما يتعلق بالاستقرار الداخلي والنمو الاقتصادي، أو بعملية التسوية مع الأكراد التي قطعت شوطاً طويلاً قبل أن تتوقف، أو حتى تنهار، تحت وطأة الغطرسة الكردية والاتكاء على المتغيرات الإقليمية، لتحقيق مكاسب سياسية محلية، غير أن السلطات التركية تفهم أن لا مجال لخسران الحرب، وأن تحجيم الأكراد وإجهاض نزعاتهم الانفصالية، شمال سورية، سيجبر أكراد تركيا على العودة إلى رشدهم، والفهم أن لا شريك جديا لهم سوى حزب العدالة والتنمية، وأن الوسائل السياسية السلمية والديمقراطية وحدها قادرة على تحقيق آمالهم، وحقوقهم المشروعة في العدالة، والمساواة، والمواطنة الكاملة.
المصدر : العربي الجديد