مقالات

منصور الهجلة – عشر وصايا تحمي أولادك من «الدعشنة»!

الأسرة بشكل عام غير معنية بما هو خارج عن قدرتها من الأسباب السياسية والاقتصادية، وحتى أنا ككاتب لهذه المقالة لا أستطيع أن أعالج ما هو خارج عن قدرتي في تشخيص المشكلة ومعالجتها. لذا؛ سيكون تركيزي في هذه الوصايا على النواحي التثقيفية التي يستطيع الوالدان أن يراعياها في أولادهما، وأُجملها في التالي:

الوصية الأولى: “نبي المرحمة”

اصطفى الله نبيه محمدًا عليه الصلاة والسلام، الذي عرف بأكمل أخلاق بشرية عرفها قومه؛ فهو الصادق والخلوق والرجل الكريم في كل تصرفاته، وهو الرحيم للفقير والضعيف وذي الحاجة، كما قالت خديجة رضي الله عنها له يوم جاءه جبريل لأول مرة: “والله لا يخزيك الله أبدًا، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتُقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق”، هذا النبي الذي قال الله سبحانه وتعالى فيه: “وإنك لعلى خلق عظيم”، وقال: “ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك”.

فهو الشخص الأمثل خُلُقيًا لحمل رسالة الرحمة. لذا؛ قال سبحانه: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” وليس أرسلناك ذابحًا وقاتلًا للعالمين وكل المخالفين، ولو كان هذا هدف الرسالة لكان الله سبحانه وتعالى قادرًا على إرسال كتبية عسكرية بدلًا من هذا النبي الرحيم بالخلق، الحريص على حياتهم وبقائهم وهدايتهم وليس على قتلهم وفنائهم لمجرد اختلاف الدين.

الوصية الثانية: “سنة اختلاف البشرية في أديانها هو للتسابق في الخيرات لا للاقتتال والاحتراب”

قرر الله في القرآن أن الاختلاف في الدين والعقيدة وغيره أمر واقع وسنة كونية، لا يمكن الفكاك منها، ولا تجد في القرآن آية واحدة تدعو للقضاء على هذا التنوع؛ بل استمع لهذه الآية الكريمة: “ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعًا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون”؛ فالله سبحانه أراد هذا التنوع كونًا وخلقه للامتحان والاختبار في أن يكون سببًا في إظهار كل أمة ما عندها من الخير والفضل والخلق الكريم ليتسابقوا ويتنافسوا فيه؛ فالتنافس لتحقيق الخير هو هدف التنوع وليس هدفه الاقتتال لإخضاع أحد إلى شريعة أحد، وقد ربط  الله سبحانه آية عدم إرادته توحيد الناس في أمة واحدة بتنوع الشرائع والتسابق في تحقيق الشريعة الأصلح للناس في آية واضحة جدًا جمعت هذه المعاني: “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات”.

الوصية الثالثة: “مهمتك تبليغ الدين فقط وليست الحكم على الناس في الدنيا بالموت”

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم”. كان أكبر سبب في قبول رسالة النبي صلى الله عليه وسلم صفاته الفعلية التي سبقت أقواله التي يدعو إليها، والقرآن بيّن أن مهمة نبي الرحمة هي البلاغ “وما على الرسول إلا البلاغ المبين”، “إنما أنت منذر، ولكل قوم هاد”، وبين أن الهداية ليست لك “إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء”، “ليس عليكم هداهم”، وجعل الحكم على المخالفين في الآخرة وليس الدنيا “لكم دينكم ولي دين”، “أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”، و”لا إكراه في الدين”، وبعد ذكر الأصناف الستة التي تشمل أجناس الكفر كلها: “إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد”؛ لاحظ ختمة الآية: “إن الله يفصل بينهم يوم القيامة”، فالفصل في أديان الناس وضمائرهم في الآخرة وليس الدنيا.

الوصية الرابعة: “الأصل في الإنسان حرمة الدم”

دم الإنسان كله حرام، وكل سفك دم على الأرض يعتبر محرمًا وفسادًا في الأرض ما لم يكن بحق شرعي، ليس من ضمنه مجرد الكفر، ودليله الآية التي وضحت بشكل حصري هذا المعنى، في قوله تعالى: “من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا”، وقوله تعالى: “ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلا بالحق” والمستثنى أقل دائمًا من المستثنى منه، وأكثر البشرية ليسوا على ملة الإسلام؛ فهل جئناهم بالقتل؟!

ومن قواعد فقهاء الحنفية: “والآدمي خلق معصوم الدم ليمكنه تحمل أعباء التكاليف، وإباحة القتل عارضٌ بحرابه -أي بسبب محاربته- لدفع شره”، وقولهم: “الكفر من حيث هو كفر ليس علة لقتالهم”، أي: قتال الأعداء، وقال أحد أئمة الحنفية: “ولا تأثير للإسلام في تحصيل العصمة؛ لأن الدين ما وُضع لاكتساب الدنيا، وإنما وضع لاكتساب الآخرة، وإذا كانت النفس معصومة بالآدمية فالمال يتبعها ليتمكَّن من تحمُّل أعباء التكاليف”، والشهادتان عاصمة للكافر الحربي (أي: المحارب المعتدي) من القتل حتى وقت قتاله، لحديث أسامة بن زيد لما قال: “بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلًا، فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أقال لا إله إلا الله وقتلته؟! قال أسامة: إنما قالها خوفًا من السلاح، قال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم قالها أم لا، فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيتُ أني أسلمت يومئذ”، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: “فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا أتتك يوم القيامة، فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا أتتك يوم القيامة، يكررها عليه، فقال أسامة: استغفرلي، فجعل لا يزيده على ذلك”، وأما غير الحربي فهو معصوم الدم بالأصل.

الوصية الخامسة: “سبب جهاد النبي عليه الصلاة والسلام هو المعادة من قبل ملل الكفر وليس مجرد كفرهم هو السبب”

لم يبتدئ النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا بقتال، بل كان ممتثلًا للقرآن الكريم؛ حيث جاء الترخيص بالقتال للنبي صلى الله عليه وسلم بسبب الظلم والقهر والاضطهاد والقتل الذي كان هو وأصحابه يواجهونه؛ حيث قال الحق تبارك وتعالى: “أُذن للذين يُقاتلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم على لقدير”؛ فبسبب أنه وقع عليهم الظلم أبيح لهم الرد بالقتال، وحتى آخر آية جاءت تأمر بالجهاد عللت بأن سبب القتال هو عدم أمن كفار مشركي العرب: “كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة”، وغيرها من الآيات التي تأتي في هذا السياق؛ حيث كانوا يدخلون تحت علة كونهم لا يأمنون بأن يبيّتوا نية القضاء على المسلمين في المدينة، فلا يوجد أي اتفاقات دولية تسمح بالدعوة وبممارسة المسلمين لشعائرهم في دولهم، بل كانت دولًا متبنية لدين منافس، لذا؛ فهم لن يرقبوا في النبي صلى الله عليه وسلم إلًا ولا ذمة. لذا؛ قال تعالى: “قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أُتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون”.

الوصية السادسة: “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة”. ما معنى الفتنة؟

يذاع بأن معنى الفتنة في الآية الكفر، وأن علينا أن نقاتل الكفر وملله حتى نمحيه عن وجه الأرض، وهذا تفسير مجمل وغير صحيح، ومن فهم هذا الفهم فهو فهم غير عاقل؛ بل هو إلى الجنون أقرب، يحول الدين لدين أسود يرغب في القتل وسفك الدم حتى يكره الناس على دخوله، وقد وضحت في مقالة مستقلة أقوال العديد من العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم في أن مجمل معنى الفتنة هو الاضطهاد الديني، وسوف أعرض فقط تفسير ابن عمر المفصّل في صحيح البخاري، وقد ورد كما أعلم في ثلاثة مواضع من الصحيح:

ففي كتاب التفسير منه، في تفسير سورة الأنفال، باب “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله”، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلًا جاءه فقال: يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) إلى آخر الآية، فما يمنعك ألا تقاتل كما ذكر الله في كتابه، فقال: “يا ابن أخي اغتر بهذه الآية، ولا أقاتل أحب إليَّ من أن أغتر بهذه الآية، التي يقول الله تعالى فيها (ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا)… إلى آخرها، قال: فإن الله يقول (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة)، قال ابن عمر: (قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان الإسلام قليلًا فكان الرجل يفتن في دينه، إما يقتلونه وإما يوثقونه حتى كثر الإسلام، فلم تكن فتنة)، فلما رأى أنه لا يوافقه فيما يريد، قال: فما قولك في علي وعثمان، قال ابن عمر: (ما قولي في علي وعثمان، أما عثمان فكان الله قد عفا عنه، فكرهتم أن يعفو عنه، وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختنه، وأشار بيده، وهذه ابنته أو بنته حيث ترون).

الوصية السابعة: العلاقات الإنسانية لا تعارض عقيدة الولاء والبراء

للولاء مراتب وللبراء مراتب، تبدأ من الولاء لله ورسوله وللمؤمنين، وأما البراءة فتكون من الأفعال والأقوال المنكرة المخالفة لأصل الدين وفرائضه، ومن يتبنّ الاتصاف والمنافحة عن هذه الأقوال والأفكار من جهة كونه متصفًا بها، لكن كون المتصف بالصفات المنكرة كافرًا؛ فهذا لا يعني البراءة من ذاته كإنسان بإطلاق بحيث نتجرد عن كل مستويات العلاقات الإنسانية الرحيمة به!؛ لأن الإنسان، أي إنسان، لديه قدرة أن يجمع بين أنواع من المحبة الإنسانية والفطرية مع وجود البراءة من صفات وأقوال خاصة في الشخص، وأول دليل قوله تعالى “إنك لا تهدي من أحببت”؛ فأثبت الله سبحانه المحبة للكافر، وأيضًا جواز الزواج من الكتابية يقتضيه وجود المحبة الطبيعية للزوجة، وكذلك محبة الوالدين: “وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفًا”، وكذلك محبة الأب لابنه مثل محبة نوح عليه السلام لابنه وحرصه على هدايته وإنقاذه والاستغفار له.

فكل العلاقات الإنسانية لا تعارض وجود هذه العقيدة. لذا؛ واجب المسلم أن يتعامل بأخلاقه الإسلامية التي منها ممارسة كل الأخلاق الإنسانية الراقية مع المخالف له في الدين، من محبة وإحسان ووفاء وأمانة ونصح، كما قال تعالى: “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتُقْسطوا إليهم”.

الوصية الثامنة: التكفير وقضية “من لم يكفر الكافر فهو كافر”

من مشاكل الجماعات المتطرفة الجهادية ولوغها في باب التكفير والتساهل فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما”، وفي رواية: “إذا سمى الرجل أخيه يا كافر، فقد كفر أحدهما”.

وهناك ناقض من نواقض الإسلام وهو أنه من لم يكفر الكافر فهو كافر، وهذا الناقض من أكثر النواقض غلطًا؛ لأن التكفير لا يقع بمجرد الوقوع في الكفر، بل لا بد من توفر الشروط والموانع، وبعد توفر الشروط والموانع فإن التكفير لا يكون إلا للقضاء، وبعد كونه من القضاء فإنه يظل تكفيرًا ظنيًا لا قطعيًا ولا ملزمًا حتى. لذا؛ فتطبيق قاعدة من لم يكفر الكافر فهو كافر بالتكفير الظني خطأ لا يجوز القول به؛ لأن التكفير لا بد أن يكون في أعلى درجات اليقينية، وإلا وقع الشخص في كبيرة من كبائر الذنوب.

وهنا مسألة يجب أن نعلم أنه لا يجوز تكفير “المتأوّل”، وهو الذي يظن شيئًا أنه غير مخالف للدين بناء على فهمه من أدلة معينة وأنها توافق رأيه، وهو من وجهة نظر أخرى ترى أنها كفر؛ ففي هذه الحالة لا يجوز تكفيره لأنه مجتهد “مخطئ”، يقول ابن تيمية: “والمسلم المتأوّل معذورٌ، ومعه الإسلام الذي تغفر معه الخطايا، والتوبة التي تجب ما كان قبلها، وفي إيجاب القضاء وإسقاط الحقوق وإقامة العقوبات تنفير عن التوبة”.

الوصية التاسعة: تطبيق الشريعة وحجة تكفير الدواعش بقوله “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”!

١- ما هي الشريعة؟

الشريعة تطلق ويراد بها أمران: الأمر الأول المشروعية، وهي هنا تشمل المنزل والاجتهادي الاستنباطي “وقد يسمى الشرع المؤول”. والأمر الثاني قد يقصد به الشرع المنزل، أي النصوص الشرعية المنزلة.

ولا بد أن نعلم أن أغلب أحكام البشرية في الحياة أحكام مشروعة وشرعية وتوافق عليها الشريعة، وأن مساحة التعارض بين الشريعة وغيرها من شرائع البشر المصلحية التي تخدم الإنسان ضئيلة جدًا؛ إلا أن الغلاة يحاولون أن يظهروا أن الشرائع مخالفة، ويركزون على تضخيم الأمور المتعلقة بالقضايا الأخلاقية الجنسية، مع أن أنظمة البشر ترتبط بالإدارة والصحة والأمن والعقود والحقوق ودفع الاحتكار والشفافية والحقوق وغيرها من الأمور التي تظهر فيها تطبيقات العدل ونفي والظلم مما لا ينكره إنسان عاقل فضلًا عن مسلم منصف.

٢- تطبيق الشريعة بين الإخضاع والإقناع

الشريعة تكون بالإقناع لا بالإخضاع، أعني هنا في مستوى الدولة وقبل اختيار الشريعة والقوانين الموافقة لها؛ فإن القول بالإخضاع لا يكون إلا بعد اختيار الشريعة من الدولة المحتكرة برضى الناس للعنف المشروع، كما هي كل الدول المسلمة وغير المسلمة، تخضع الناس لقوانينها، لكن أن يبتدئ القتال لأجل إخضاع الشريعة فهو قول باطل ومرجوح، ومخالف لأغراض وأهداف الجهاد المشروع كما في النقاط التي أشرع إليها سابقًا، وكما في مقالتي التي تكلمت فيها عن هذا الأمر بعنوان “طريق الأنبياء والفهم الداعشي”.

٣- تطبيق الشريعة التزامٌ عامٌ وليس امتثالًا مطلقًا

لتوضيح الفرق بين ما أقصده من كلمة “التزام” وكلمة “امتثال”، أقول: إن الأصل في المسلم أنه ملتزم بالشريعة في تطبيق أحكامه في حياته العادية؛ فيحل الحلال ويحرم الحرام، ويحق الحق والعدل، ويبطل الباطل، وهذا كله من باب الالتزام الإرادي، لكن عند حدوث الخطأ والمخالفة بسبب هوى أو جهل فإنه لا يخرجه ذلك من الإسلام؛ لأنه حتى المعاصي الذاتية فيها نوع حكم بغير ما أنزله الله، سواء كان ذلك في نفسه أو في غيره، هذا على مستوى الأفراد سواء كانوا أفرادًا عاديين، أو كانوا غير عاديين كموظفين في وظائف عليا أو قضاة يقعون في الظلم والهوى.

وأما على مستوى الدولة، فإن الدولة ما دام أنها تعلن التزامها بأن الشريعة هي المصدر الأساس وأنه المصدر الأعلى والمهيمن على غيره من المصادر؛ فإن وقوع الخطأ في الامتثال لا يخرجها عن كونها دولة مسلمة، أضف إلى أن هناك مبحثًا آخر يطول شرحه حول مفهوم الدولة والدين.

إذن؛ قول ابن عباس رضي الله عنه الذي حاول البعض تضعيفه في تفسير قوله تعالى “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”، قال: “كفر لا ينقل عن الملة” أو “كفر دون كفر”، محمول على المسلم الملتزم بالشريعة؛ إلا أنه وقع في التحكيم بغير ما أنزل الله بسبب هوى أو تقصير، فما بالك لو كان بسبب تأويل واجتهاد فحينها قطعًا لا يجوز تكفير قيادات الدولة لهذا السبب.

الوصية العاشرة: “أحاديث مشكلة”

الحديث الأول: “أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله”

وضحت في أكثر من مرة أن الخطأ في فهم هذا الحديث على أنه للعموم، وأن “الناس” المقصود به الناس المذكورين في سورة التوبة، وهم مشركو العرب الذين جاء الأمر بقتالهم لعلل كثيرة مادية أهمها: قوله “كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة” ومنها أنهم لا يسمحون بالدعوة ولا بحرية ممارسة المسلمين دينهم؛ فهم أصحاب ظلم واضطهاد وفتنة فهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة.

الحديث الثاني: “إنما جئتكم بالذبح”

وقد وضحت في مقالة سابقة أن هذا الحديث فيه مقال من حيث السند ومن حيث الدلالة؛ حيث لم يبح القتال وقتها لآية “أُذن للذين يقاتلون… إلخ”، ولو ثبت صحة الحديث فالمراد جئتكم بالرد على اعتداءاتكم وظلمكم الذي تهددونني به بالمثل، لا أن يبتدئ المسالم منهم بقتال، والدليل أن القرآن وضح علة قتاله لكفار قريش بقوله: “أُذن للذين يُقاتلون بأنهم ظُلموا”، فكفار مكة كانوا يقاتلون المسلمين ويظلمونهم، فجاء الإذن بمقاتلتهم.

الحديث الثالث: “لا تبدؤوهم بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه”

هذا الحديث يظهر مستوى من الكراهية والتضييق بالكافر لو فهم بهذه الطريقة المقتضبة المشوهة لأخلاق الرسالة، التي تسمي نفسها “رحمة للعالمين”.

هذا الحديث ورد بألفاظ متعددة، تفرّد به سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، وفيه: “لا تبدؤوا اليهود” إلى أن قال: “وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه”، وفي رواية “المشركين”، وفي رواية أخرى “أهل الكتاب”، والأرجح من كل هذه الروايات لفظ اليهود، ويرجحها أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم نقض بنو قريظة الميثاق وذهب لقتالهم وإجلائهم، قال هذا الأمر المغلظ؛ فهو إلى قوم مخصوصين محاربين، وقد ورد التوضيح في زيادة في مصنف ابن أبي شيبة من حديث أبي نضرة الغفاري؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: “إنا غادون إلى يهود فلا تبدؤوهم بالسلام”، وما جعل هذا الحديث محتجًا به هو إخراج مسلم له، وإلا ابن عدي عدّه من الأحاديث المنكرة التي تفرد بها سهيل بن أبي صالح، ولم يحتج البخاري بأحاديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة، وذهب ابن عباس وأبو أمامة وابن محيريز وبعض الفقهاء إلى جواز ابتداء غير المسلمين بالسلام، وهذا إعمالًا بالأحاديث الكثيرة التي تأمر بإفشاء السلام، مما يدخل فيه المسلم وغيره، كما قال صلى الله عليه وسلم: “أيها الناس أفشوا السلام وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام”، ولما سئل الرسول: أي الإسلام خير؟ قال: “تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف”، وقد استدل بعض السلف بقوله تعالى “وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون، فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون” على جواز ابتدائهم بالسلام . والله أعلم.

المصدر : صحيفة التقرير 

زر الذهاب إلى الأعلى