مقالات

رضوان السيد – الشيخ وهبة الزحيلي والتقليد الفقهي والثورة السورية

 توفّي الشيخ وهبة الزحيلي قبل أيامٍ بدمشق عن سنٍ عالية. وقد كان منذ الستينات والسبعينات من القرن الماضي بين أربعة أو خمسة هم أشهر علماء الشام، أما في العقدين الأخيرين فقد صار أول اثنين أو ثاني اثنين، والآخر هو الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي. والنشأة العلمية واحدة، فبعد دمشق تابعا دراساتهما الجامعية بالأزهر، وحصلا على الدكتوراه من هناك أيضًا. وقد اشتهرت أُطروحة الزحيلي، كما اشتهرت من بعد أُطروحة البوطي.

أما الزحيلي فقد كتب أُطروحته عن: «آثار الحرب في الفقه الإسلامي»، وأما البوطي، فقد كتب أُطروحته في «ضوابط المصلحة في التشريع الإسلامي». وإذا كان الرجلان قد تشابها في التقليد المذهبي (= المذهب الشافعي) وفي الدراسة؛ فإنّ الأصول الثقافية والمزاج والعلاقات بنظام الأسدَين والاجتماع السوري العام، اختلفت اختلافًا شاسعًا. أما الزحيلي فقد مارس حيادًا صارمًا رغم كتاباته الأكاديمية التي تتدخل في الشأن العام باسم الإسلام، وأما البوطي ذو الأصول الكردية والصوفية فقد ظلّ قريبًا باختياره واختيار النظام من حافظ الأسد وابنه، وفي النصف الثاني من الثمانينات لعب دورًا في تهدئة الأمور بين الأسد والمنفيين أو الهاربين من الإخوان والمحسوبين عليهم (بعد واقعة حماه عام 1982). وفي حين يقلّل كارهو البوطي من شأن ما قام به وأنه كان لصالح النظام فإنّ آخرين قالوا لي ومنهم البوطي نفسه إنه بفضل حركته وثقة الأسد به، مكَّن ثلاثة آلاف سوري من العودة إلى ديارهم أو السماح لهم بالحركة الحرة بين الداخل والخارج!

ينتمي وهبة الزحيلي (وأخوه محمد والبغا والنابلسي والبوطي وأديب الصالح والعتر وآخرون كثيرون من جيلي السبعينات والثمانينات) إلى فقهاء التقليد الإصلاحي الإسلامي الذي استقر بالأزهر أيام شيخه محمد مصطفى المراغي وشيخه مصطفى عبد الرازق، اللذين تتلمذا على محمد عبده، وكسبا المؤسسة إلى ميراثه في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي. وقد حسبتُ الزحيلي وزملاءه جميعًا على الأزهر رغم أنهم ما تخرجوا جميعًا فيه وبخاصة بعد الثمانينات من القرن الماضي، لأنّ علماء بلاد الشام والعراق من السنة، ما استطاعوا أو ما مالوا حقًا إلى إقامة مرجعيات عقدية وتعليمية في ديارهم أو مدنهم الكبرى بعد ذهاب العثمانيين. بل إنّ كثيرًا من طلاب العلم الديني في مدن بلاد الشام كانوا يذهبون إلى الأزهر منذ أربعينات القرن التاسع عشر. وقد أتاح الأزهر وأتاحت مصر لكل المذاهب الفقهية تعليمًا ثانويًا وآخر عاليًا، ومِنَحًا، واستقبالاً ودودًا؛ بل وبدأت منذ ثلاثينات القرن العشرين ترسل معلّمين وشيوخًا من أجل التعليم الديني في المدارس والمعاهد الناشئة في فلسطين وسوريا ولبنان والعراق.

وما سمح عسكريو وأمنيو الدولة الوطنية من جهتهم أيضًا بنشوء مرجعيات دينية أو إسلامية كبرى كمؤسسات أو شخصيات. وهذا فرقٌ آخر بين ضباط ثورة يوليو، وسائر الآخرين بمشارق العالم العربي ومغاربه. بل إنّ بعضهم رغب في أن يذهب طالبو الدراسات العليا في العلوم الدينية إلى الأزهر باعتباره يمثل الإسلام المعتدل الذي لا يتعاطى السياسة. وما أُنشئت كلية الشريعة بجامعة دمشق، والأُخرى بجامعة بغداد إلاّ في الستينات والسبعينات. وفي كلية الشريعة هذه درّس سائر الذين ذكرناهم من فقهاء الشام.
بدا التقليد الفقهي السني (تقليد المذاهب) مزدهرًا في الشام ومصر والعراق فيما بين الأربعينات والسبعينات. فقد ألّف الفقهاء المتأَكْدِمون في كل شيء من فقه المذاهب (الحنفي والشافعي على وجه الخصوص) وإلى تفسير القرآن، والفقه المقارن، والفقه والقانون، ومشكلات الشباب، والتيارات المعاصرة والإسلام، والإعجاز العلمي في القرآن.

ورغم أنّ معظم هذه المؤلفات ذات طابع مدرسي؛ فإنها تميزت بفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، ومحاولات التلاؤم حتى مع الاشتراكية والرأسمالية، والقول بحجية المصلحة في التشريع، وإمكانيات الحكم المدني. وتميز الشيخ البوطي بالتأليف في الحياة الروحية، وفي الحوار بين الأديان والمذاهب، وكتب في سلمية الجهاد ودفاعيته.

منذ التسعينات، كنتُ أتجادلُ مع الشيخ البوطي، وأكثر مع الشيخ الزحيلي بشأن مصائر التقليد الإسلامي. وكان رأيي منذ ذلك الحين أنه تحت وطأة السلفيات الجديدة والإخوانيات فإنّ التقليد انهار رغم انفتاح كبار رجالاته على الإصلاح، وحلَّت محله الإحيائيات الجديدة التي صارت إسلامًا سياسيًا وآخر جهاديًا. وكان الشيخ البوطي يعترف بوجود انقسام، لكنه كان ينبهني إلى شعبيات الإحياء الصوفي، وإلى خطورة تسييس الإخوان للإسلام. أما الشيخ الزحيلي فإنه كان ينكر ذلك تمامًا، وينبهّني إلى شعبية كتبه. فقد كتب موسوعة: «الفقه الإسلامي وأدلته» في ثمانية مجلدات طُبعت عدة مراتٍ بالعربية، وتُرجمت رغم ضخامتها إلى عدة لغاتٍ إسلامية. وقد استغربتُ في التسعينات ما قاله لي اللواء غازي كنعان عن «شرور» مالك بن نبي المفكر الجزائري الذي قضى سني عمره الأخيرة (1968 – 1975) بين سوريا ولبنان، لأنّ مالكًا نبهّني عام 1970 إلى انهيار تقاليد فقه الدين وتقاليد فقه العيش في أوساط الشبان، وظهور بروتستنتيات متشددة في أوساط الشبان، وهي مضرة بالدين أكثر من إضرارها بنظام الدولة الوطنية بالجزائر وسوريا ومصر؛ قال: ينبغي مكافحة العنف في عقول الشباب!

… وجاء العام الفاصل، 2011. فأما الشيخ البوطي وباسم المسالمة وطاعة السلطة العادلة كما هو مذهب أهل السنة؛ فإنه ظلَّ مع بشار الأسد وليس بالصمت، بل بالكلام اليومي والعالي الوتيرة. وأمّا الشيخ الزحيلي فقد قلّت مراتُ مغادرته لدمشق. وما قال كلمة مع النظام أو ضدّه، لكنْ عندما رأيتُه مطلع عام 2012 كان كأنما كبر عشرين سنة، قال لي على حدة: «لقد غادر الزملاء والتلامذة، وما بقي بدمشق غير دراويش البوطي وأنذال لبنان بالتلفزيون السوري. قل لي كيف يكون زبانية النظام القاتل أصحابًا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ثم في الوقت نفسه كيف تريدني أن أقبل مقولة القرضاوي بارتداد النظام وضرورة الجهاد ضده؟! قبل ثلاث سنوات لا أكثر جاء القرضاوي مبعوثًا من أمير قطر ليمدح الرئيس المجاهد بشار الأسد، الذي ارتدّ الآن في نظره فيما يبدو. ذكِّرْني يا ابني كيف كان يقول مالك بن نبي عن فقه الدين وفقه العيش، لا أريد الآن إلاّ توقف القتل، فأنا أشعر أننا مقبلون على ما هو أشدّ هولاً، زارني أستاذ إيراني وقال لي إنّ الخامنئي لن يتخلى عن الأسد لأنه يعتبره مثل ابنه (!)؛ ليتني متُّ قبل هذا وكنتُ نسْيًا منسيا». وعندما قتل البوطي بمسجده بدمشق عام 2013 بطريقة غامضة وما ادعى أحدٌ المسؤولية، اتصلتُ بالزحيلي وعزيته فاكتفى كما في آخر مرة بالقول: ليتني متُّ قبل هذا. رحم الله الزحيلي، ولَطَف عز وجلّ بسوريا وبالإسلام!

المصدر : الشرق الأوسط 

زر الذهاب إلى الأعلى