مقالات

محمد زاهد جول – مفهوم الأتراك للمنطقة الآمنة وأهدافها

تناولت المحادثات التركية الأمريكية التي استمرت ثمانية أشهر الكثير من القضايا الشائكة، إحداها كانت فكرة المنطقة الآمنة التي طرحتها تركيا منذ سنوات، بعد الازدياد السريع لعدد اللاجئين السوريين إلى تركيا، حتى تكون المنطقة الآمنة على الأراضي السورية منطقة لجوء للشعب السوري داخل بلاده أولاً.

ولكن أمريكا كانت ترفض ذلك، وقد جرى التأكيد عليها عندما شرعت أمريكا بقيادة تحالف دولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» قبل عام تقريباً، ولكن أمريكا بقيت مصرة على رفض المنطقة الآمنة، ولكنها وبعد شعور إدارة الرئيس الأمريكي أوباما بالفشل في مكافحة تنظيم الدولة «داعش»، عادت لتفاوض تركيا على مطالبها للمشاركة في الحرب على «داعش»، وأظهرت ليونة في الموقف الرافض لمنطقة آمنة في سوريا، وحيث أن تركيا تدرك أن الرفض الأمريكي السابق كان مرتبطاً بالاتفاق النووي مع إيران، والتزام أمريكا لإيران بعدم القيام بأي إجراء سياسي دولي يقوض نظام الأسد، فإن تركيا أدركت أن امريكا أصبحت بعد الاتفاق النووي مع إيران معنية بسماع المطالب التركية أولاً، وفي مقدمتها حاجة الحدود التركية السورية إلى منطقة آمنة، وكذلك الحدود الأردنية السورية وغيرها، ولكن أمريكا لا تريد إظهار اتفاقها مع تركيا على منطقة آمنة أو عازلة على العلن إطلاقاً، حتى لو قامت تركيا بفرض المنطقة الآمنة بمساعدة امريكية سرية.

إن من طبيعة الاتفاقيات العسكرية ألا تكون علنية بين الجيوش والمؤسسات العسكرية، وأن ما يكشفه الواقع هو الذي يشير إلى نوع الاتفاقيات العسكرية التركية الأمريكية، ولكن الصحف الأمريكية نفسها لم تنكر الاعتراف بالمنطقة الآمنة، فقد أشارت صحيفة «واشنطن تايمز» إلى أن خطة إدارة أوباما بالاتفاق مع تركيا لإقامة منطقة عازلة في شمال سوريا تلقى انتقادات متزايدة لدى الأوساط المهتمة بالأمن القومي الأمريكي، الذين يرون أنه لا توجد قوات معارضة سورية معتدلة كافية لتأمين المنطقة العازلة، رغم الحماية الجوية الأمريكية، وأضافت أن الخطة الأمريكية التركية تعتمد بشكل كبير على قوات من المعارضة السورية المعتدلة سبق أن خضعت لموافقة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي أي) وتدربت على أيدي قوات العمليات الخاصة الأمريكية، بحيث تقوم طائرات بدون طيار ومقاتلات أمريكية أخرى بحمايتها.

فالصحافة الأمريكية تتحدث عن المنطقة الآمنة وكأنها حقيقة متفق عليها بين الأتراك والأمريكان، ولا تتحدث عن وجود عسكري تركي في سوريا، وهو الأمر الذي لم يتحدث عنه الأتراك أيضاً، فمفهوم المنطقة الآمنة في سوريا عند الأتراك لا يعني تدخلا عسكريا تركيا في سوريا إطلاقاً، وإنما أن تكون هناك منطقة آمنة للشعب السوري، يستطيع اللجوء إليها بهدف الأمن والسلامة الشخصية وللأسر والعائلات والأطفال والنساء وتوفير المساعدات الإنسانية لهم، من دون اضطرارهم إلى مغادرة سوريا ولا إقامة مخيمات أخرى في تركيا او غيرها. وبالتأكيد فإن مثل هذه المنطقة ينبغي ان تكون آمنة من كل تهديد مهما كان مصدره ونوعه، وبالنظر إلى المعارك التي نشبت شمال سوريا في السنة الأخيرة فإن الجهات التي تهدد وتقتل الشعب السوري هناك هي:
1ــ الميليشيات التابعة لبشار الأسد باسم قوات النظام.
2 ــ ميليشيات تنظيم الدولة «داعش».
3 ــ المليشيات الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وميليشياته وحدات حماية الشعب.

هذه المليشيات الثلاثة قامت بعمليات قتل ومهاجمة للمدن والقرى السورية بهدف فرض أجندة خاصة بها، وبعمليات تطهير عرقي وقومي وطائفي، ولذلك فإن من أهداف المنطقة الآمنة للمواطنين السوريين حمايتهم من تهديدات كل هذه الأطراف الإرهابية الثلاثة، ميليشيات الأسد وداعش ووحدات حماية الشعب، وبالتالي فإن المنطقة الآمنة ستكون لمنع هذه المليشيات بكل انواعها من الدخول او تهديد أراضي المنطقة الآمنة، والعمل على إخراجهم منها إذا حاولوا الدخول إليها.

هذه الأراضي قدرها البعض بطول ثمانية وتسعين كلم، وعمق خمسة وأربعين كلم داخل الأراضي السورية، فهي منطقة آمنة ومن اجل الشعب السوري، وبحماية قوات من المعارضة السورية المعتدلة التي تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتدريبها الآن، وقامت من قبل بتقديم دعم لفصائل عديدة منها، الجيش السوري الحر، ولذلك لما وقعت بعض النزاعات بين القوات التي دربتها أمريكا مع جبهة النصرة، آثرت جبهة النصرة الانسحاب، بحجة عدم سعيها للاصطدام مع تنظيم الدولة «داعش» ضمن معاهدة تركية أمريكية لإخراج «داعش» من هذه المنطقة الآمنة، بينما كان يمكنها المساهمة بمساعدة الشعب السوري دون الاصطدام مع أحد، إلا إذا قاوم إقامة هذه المنطقة الآمنة، سواء كان من المليشيات التابعة للأسد او لقوات وحدات حماية الشعب الكردية او من تنظيم الدولة «داعش».

هذا هو مفهوم المنطقة الآمنة لدى الحكومة التركية، وهو ما أكد عليه مستشار وزارة الخارجية التركي فريدون سينيرلي أوغلو، عندما اعلن توصّل القيادة التركية إلى اتفاق مع الإدارة الأمريكية بشأن إقامة مناطق آمنة داخل الأراضي السورية، وقد صرح سينيرلي أوغلو : «بأنّ القوات التركية بالاشتراك مع القوات الأمريكية ستقوم بقصف عناصر تنظيمي الدّولة «داعش» وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) في حال اقترابهما من المناطق الآمنة التي سيتم تحديدها لاحقًا»، فالحديث التركي الجديد عن منطقة آمنة محدودة، بينما كانت الحكومة التركية سابقاً تصر على إقامة مناطق عازلة على طول الشريط الحدودي مع سوريا، إلّا أنّ الإدارة الأمريكية كانت تتحفظ على هذه الخطوة، بحجة أنّ إقامة مثل هذه المناطق لها تبعات لوجستية واقتصادية كبيرة.

هذا الموقف الذي أعلنه سينيرلي أوغلو كان رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو قد صرّح بمثله سابقاً مؤكداً :»أنه حان وقت إنشاء منطقة آمنة في سوريا، لا سيما ضد هجمات «داعش»، مشيرا إلى أن التفاهم الذي جرى مع الولايات المتحدة، بخصوص محاربة التنظيم، ينبغي أن يشمل دعم المعارضة السورية المعتدلة من أجل مستقبل سوريا، فالمنطقة الآمنة من وجهة نظر الحكومة التركية هي لسببين، الأول: ضمان بقاء اللاجئين السوريين في وطنهم، والثاني حمايتهم فيها، لذلك فإن النفي الامريكي الذي أدلى به المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأمريكية مارك تونر، قائلاً: «ليس هناك اتفاق على إقامة منطقة آمنة»، وأشار إلى أنه لم يطلع على تصريحات المسؤول التركي الذي تحدثت عن منطقة آمنة، وأنه لا يمكن التعليق عليها، وقال: «لقد كنا واضحين جدا وقلنا إنه ليس هناك اتفاق بشأن إقامة منطقة آمنة، ونحن لا نتحدث عن ذلك هنا، ما نتحدث عنه هو جهد متواصل لدفع «داعش» من المنطقة».

هذا التصريح الأمريكي لا يتعارض مع الموقف التركي إلا بالإعلان عن اتفاق علني على إقامة منطقة آمنة، أي ان تقوم أمريكا بالعمل على إقامة هذه المنطقة، وهذا ليس مطلباً تركياً أصلاً، وإنما الطلب التركي من أمريكا أن يكون هناك توافق تركي امريكي على أن منطقة آمنة وخالية من «داعش» والتنظيمات الارهابية الأخرى هو ضرورة أساسية لمساعدة الشعب السوري وحمايته في منطقة معينة مهما كان حجمها. فمما لا شك فيه ان الحكومة التركية وقعت مع امريكا اتفاقية عسكرية تتيح لأمريكا استخدام قاعدة إنجيليك التركية الجوية، وقد باشرت أمريكا طلعاتها الجوية من هذه القاعدة، وقد تم الاعلان عن ذلك بعد تلكؤ وتردد، ولكن الواقع العملي أثبت ذلك، وهذا الحال سينطبق على مفهوم المنطقة الآمنة، وإن لم يعلن عنها في اتفاق خاص، أي ان الواقع القادم سوف يثبت وجود منطقة آمنة، محرمة على جميع الارهابيين.

إن التحديات الأمنية التي تواجهها تركيا في الداخل تنعكس على تحدياتها وسياستها الخارجية أيضاً، فالمحاولات التي بدا حزب العمال الكردستاني القيام بها داخل تركيا وخارجها هي أعمال إرهابية ترتبط بالأحداث في شمال سوريا وكل سوريا، لأنها ترتبط بالمحور الذي يدعم بشار الأسد على قتل الشعب السوري، ولذلك فإن حزب العمال الكردستاني يقف ضد المنطقة الآمنة، وكذلك «داعش» تحاول الآن مواجهة فكرة المنطقة الآمنة وإفشالها، وهذا يعني ان «داعش» تنسق في اعمالها العسكرية مع التنظيمات الارهابية الكردية، والقاسم المشترك بينهما هو فيلق القدس الذي يقوده الجنرال الإيراني قاسم سليماني، الذي يحاول جعل شمال سوريا بؤرة قلق واضطراب للدولة التركية، وأمريكا مطالبة ان تتفهم المخاطر التي تهدد الأمن التركي، وإن حاولت أن تظهر بانها في علاقة جيدة مع الإيرانيين والأكراد في وقت واحد، فسعي امريكا لإرضاء الإيرانيين والأكراد لا ينبغي ان يكون على حساب الأمن القومي التركي إطلاقاً.

المصدر : القدس العربي 

زر الذهاب إلى الأعلى