منذ انطلاقة الثورة السورية في ربيع 2011 وحتى اليوم ، يأخذ الموت من السوريين ما تبقى من حياة ، كأنه رياح طاعون ، لا تُبقي ولا تذر ، ولكنها كانت المحرقة والمقتلة ، من السلمية التي نادت حرية ، وحتى المسلحة التي علا صوت الرصاص كل الأصوات والتي دوت انفجارات البراميل فطغت على سكون الركام .
انقسم “علماء الشام ومشايخها ” انقساماً أفقياً ، قسمٌ مع النظام و المحور الشيعي الذي يغزو دمشق ، وقسمٌ مع الثورة السورية ، فيما وقف فريقٌ بين الاثنين على الحياد لا يُسمعُ لهم صوتاً ولا همسا ، وقفوا على الخط الفاصل بين الثورة والقاتل ، بين الجلاد والضحية .
عودة للوراء :
كان دور العلماء عبر التاريخ الإسلامي منقسماً دوماً إلى جهتين : جهة مع السلطان وجهة مع عامة المسلمين ، ودوماً ما يذكر التاريخ فقهاء العامة بأنهم الأكثر تقوىً وصلاح ، من العلماء الذين صاحبوا السلاطين وشرعنوا لهم أحكاماً تثبت حكمهم وتساندهم في مواجهة معارضيهم أو ثورات المظلومين ، وهو الدور الذي غاب في حقبة الخلافة الراشدة ، لأن علماء الصحابة كانوا دوماً يمارسون الدور الحقيقي في لم شمل الأمة وتوحيد صفها .
لم تكتمل المؤسسة الدينية (بعيداً عن المعنى اللاهوتي أو احتكار الدين ) في عهد الأمويين ، وإن انتشرت الحِلق العلمية ، والدروس الفقهية وبداية التدوين ، فهي فترة ما تبقى من الصحابة وعهد التابعين ، ولكنها كانت بداية دور علماء السلطان الذين يحضرون مجالسه ، والذين شرعنوا فقه التغلب وأسسوا أحكام الخروج على الحاكم ومصطلحات الفتن والتمسك بالإمام وغيرها.
في الفترة العباسية والأندلسية أصبحت المؤسسة الدينية أكثر قرباً من السلطان الذي بيده كل السلطات التنفيذية والسياسية والعسكرية فيما نالت القضائية فرصة تعد ذهبية في كثيرٍ من التجارب ، أما طبقة العلماء لم تأخذ دورها الحقيقي في مراقبة السلطان وإعانته على الحق ، بل كانت منسقةً أو تمارس الدور الآخر البعيد ، فيما كان هناك علماء استطاعوا أن يكونوا المواجهين لجبروت السلطان وظلمه والأمثلة كثيرة وإن كانوا هم القلة مثل سعيد بن جبير والإمام مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد ابن حنبل وابن الجوزي وأحمد ابن تيمية وابن حزم والعز بن عبد السلام . وهذا لا يعني أنّ تلك الفترات لم تكن عهد ازدهار للأمة الإسلامية وفيها تقدم علمي وعسكري وفتوحات وتجارة ربما بلغت الأوج في فترات معينة منها وبالتالي لا تقارن بحقب الخلفاء الراشدين ولا بواقعنا الحالي .
فيما كان هناك علماء لم يذكرهم التاريخ أبداً بين مجاهدي “كلمة الحق في وجه سلطان جائر” ، بل انشغلوا بطلب العلم وتدوينه ، وتركوا الأمر إما باعتباره فتنة ففضلوا الاعتزال أو لأنهم غير قادرين على الوقوف بوجه السلطان ففضلوا الصمت أو كانوا قد اجتهدوا فلم يعرفوا الحق من الباطل فكان الحياد خيارهم .
الصمت في وقت الكلام :
اختار عدد كبير من كبار علماء دمشق خصوصاً وسورية عموماً الصمت في حين يجب أن يتكلموا ، بدل مساندة النظام في الأقوال والأفعال وحضور مؤتمرات دعم الجيش وتذكيرهم بأن الملائكة تقاتل معهم التكفيريين والإرهابيين ، أو أنّ جباه المتظاهرين لا تعرف السجود ، أو إلقاء محاضرات عن فكر السيد الرئيس بشار الأسد في أحد جوامع دمشق والأمثلة لا يمكن إحصاؤها ..
حاول الكثير من العلماء والشيوخ ممن يعرفون الواقع حق معرفته من الظلم الذي عاناه الشعب السوري على مدار نصف قرن ، أن لا يساندوا النظام ، بل أن يساندوا الثورة (كما يقول الكثير من المقربين منهم) بأن صمتهم كان علامة رضا ، أو ما معناه ثوروا على بركة الله ، ثم آثروا الصمت المطبق .
ويُعرف أنّ العلماء هم ورثة الأنبياء ، أي أهل كلمة الحق ، والذين يتعذبون في سبيل الله أضعاف الناس لما يعلمونه من أجر الصبر والجهاد والمجاهدة ، حتى تصبح الأرض أكثر عدلاً ، ولأن كلمتهم الصادقة على الملأ أثقل على سمع السلطان من صراخ الناس العاديين .
يأخذ الموت الذي لا يفرق بين عالم وجاهل بأيد العلماء فيرحلون ، فيرثيهم البعض ويصمت البعض ويهجوهم آخرين ، وقد أصبحت الثورة هي القبان الذي يوزن به الناس ، فمن وقف معها وأيديها فهو لا محالة جيد ، ومن وقف ضدها فهو سيء وأمره إلى الله ، ويحتارون في رجل سكت ، فلا هو رفع صوته فقال للحق لبيك ، ولا ركن إلى المستبد فالتزم غرزه . هي ما تسمى الرمادية اليوم ، لا أبيض ولا أسود ، أو الحياد حيث شأنٌ سياسي لا علاقة لي به ، ليصبح العالم الشيخ علماني يفصل الدين عن السياسة.
قبل الثورة كان العلماء محط احترام غالب الناس أيام الرخاء ، ولكن فقدوا ذلك الاحترام في أيام الشدائد ، عندما احتاجهم الناس ليقفوا بجانبهم ويعطونهم الدفع الروحي الذي يستمدونه من القرآن والسنة ، فقدوهم في الجبهات فأصبح طالب العلم يفتي بما لا يعلم ويجتهد فيما لا يعرف ، افتقدوهم في الحصار حيث الجوع يضرب بطونهم ولم يجدوا شيخاً جائعاً يذكرهم بشعب أبي طالب وورق الشجر الذي أكله رسول الله مع صحابته المحاصرين كما في مخيم اليرموك والغوطتين.
صمتٌ معولم :
لم تكن سورية وحدها من فقد الكثير من العلماء فيها رمزيتهم ومكانتهم وحضورهم ، بل خذْ مصر وبلاد المغرب العربي واليمن والسعودية وتركيا ولبنان والعراق والأردن والإمارات وغيرها ، ففي كل البلدان شبيحةٌ لا شيوخ يقفون مع جلاديهم ضد الشعوب ، ويخرجون بفتاوى لا تصلح لأطفال في حضانة ، أو يصمت الكثير منهم حتى يبقون في أمان وتبقى دروسهم المسجدية والتلفزيونية مستمرة أو في سبيل الدعوة كما يشاع ، وهو التبرير المستمر من كل شيخ ، فالدعوة تحتاج رجالاً يؤثرون الصمت حتى لا يضيع الدين ، ويكأن الإسلام يفنى بفناء الرجال .
لقد أصبح المسلمين اليوم في فجوة مع علماءهم ، لقد فقدوا الرمزية التي يمثلها هؤلاء مابين القول والفعل ، مابين الإصلاح والركون إلى الذين ظلموا ، مابين قول الحق والسُبات الشتوي في كل الفصول وأمام كل المجازر ، وبقي قلةٌ قليلة تجاهد نفسها لأن تبقى على قدر الثقة والمسؤولية مع الحق إلى النهاية.
المصدر : هافينغتون بوست عربي