أدخل الدكتور صادق جلال العظم مصطلح «العلوية السياسية» في القاموس السياسي الخاص بسورية، وقد أثار هذا الاصطلاح ضجةً ونقداً كبيرين في الوسط المثقف وغير المثقف، وعند أنصار الثورة وأنصار النظام في آن. لكن تلك الضجة التي مال معظم المشاركين فيها إلى رفض المصطلح أو نقده أو حتى استنكاره، لم تكن بسبب جدة الاصطلاح وما يفعله أي مفهوم جديد يحاول القبض على الواقع وتكثيفه عبر نقل «ما في الأعيان إلى الأذهان» فحسب، بل لأنه اصطلاحٌ صادمٌ في بلد عاش فيه الناس العاديون، والنخب، نحو أربعة عقود من «الطهرانية الطائفية».
قامت الطهرانية الطائفية في سورية على التعالي والترفُّع، الثقافي السياسي الاجتماعي، عن الحديث في الطوائف والطائفية علناً، باعتباره حديثاً «نجساً» يُحضر شياطين الفتنة والتفرقة في بلاد تعيش على «اللُحمة الوطنية» المتهالكة، وشياطين الأمن في مجتمع يراقب نفسه ذاتياً لشدة ما تعرّض للمراقبة الأمنية، وشياطين «النقد» والتخوين الثقافي في بلاد عاشت فيها الثقافة على الترميز والتكنية والتورية والأسماء المستعارة، وأصبحت فيه الوظيفة الرئيسة للإعلام و «السلطة الرابعة» عدم تسمية الأشياء بمسمياتها. لكن مقابل الترفع المعلن، كان يسري الفعل الطائفي في ثنايا الدولة ووظائفها ومؤسساتها المدنية والعسكرية والأمنية كافة، وينمو اتفاق مضمر بين الجميع على تمرير التمييز والامتياز الطائفي كسلوك «طبيعي» متجانس مع حالة «سورية الأسد».
«التعاقد الاجتماعي» السوري على إخفاء المشكلة الطائفية والمناطقية، لم يكن دليلاً على عدم وجود المشكلة، بل بالعكس على وجودها وتراكمها وعمقها، والثورة التي أراد السوريون من خلالها التأسيس لعقد اجتماعي وطني وعلني متجاوز للطائفية، أرادتها السلطة فرطاً لكل عقد. ففي الوقت الذي كان يصدح فيه السوريون في الشوارع «الشعب السوري واحد»، كانت بثينة شعبان تحذر من الطائفية، وهل يخاف الطائفية من ليست لديه تلك المشكلة؟ أم أن أهم وظائف المِسَلَّة النخز!.
ليس العلويون كعلويين أقل أو أكثر تعلقاً بمنبتهم الطائفي من باقي السوريين، وليست هناك طائفة أفضل أو أسوأ من غيرها بالماهية في سورية، لكن سلطة تقوم على الاستيلاء المسلح على الحكم لا بد أن تتخذ من منبتها الأهلي رهينة تميزها لتمتاز عليها، وتحصنها لتتحصن بها، وترفعها لترتفع فوقها. المشكلة في السلطة لا في الطائفة المنحدرة منها.
مصطلح «العلوية السياسية» هو مصطلح سياسي، ليس مصطلحاً طائفياً على طريقة «الحكم العلوي» الذي تتشدق بها جهات غربية أو جهات إسلامية متشددة، فالحكم ليس بيد العلويين، بل هم بيد الحكم، وهو حكم يميز بينهم وفق الولاء والقرابة والعائلية والاستزلام والثروة مثلما يميزهم عن دائرة أكبر هي مجمل السوريين.
«العلوية السياسية» تحيل إلى أن بلادنا بقيت قائمة على التقسيم الطائفي المُحجَّب طوال الحكم الأسدي، بالطريقة ذاتها القائمة في لبنان بالعلن، مع فارق أن الحكم الطغموي هنا يمسح الفوارق ويخفيها بالقوة، بينما تتفعّل الفوارق هناك حتى الآخر بما يخدم أمراء الطوائف بارتباطاتهم ومرابطهم الخارجية، فالسياسة تصبح أقرب إلى «القوادة» عندما لا تكون الدولة (دولة أمة) على ما كان يقول المرحوم ياسين الحافظ.
لا تعتمد المقارنة التي طرحها العظم بين «العلوية السياسية» «والمارونية السياسية» على السرد التاريخي المقارِن والتفصيلي لتاريخ كلتا الظاهرتين مثلما حاول زياد ماجد أو بيار عقل أن يفعل، ومثلما طرح ياسين الحاج صالح في مقدمة مقاله في «الحياة» (11 آب/ أغسطس 2015)، بل على الوضع التاريخي لكلتا الطائفتين، والمقارنة المجردة بين الظاهرتين. فهناك كانت الطائفة «وحدة سياسية» بين «وحدات سياسية» هي الطوائف، وهنا تحولت الطائفة العلوية إلى وحدة سياسية بيد النظام، لا سيما أثناء الثورة. لا هنا ولا هناك كان الحكم المُتسيّد على الطائفة تمثيلياً. ومثلما أن لا إرادة سياسية مستقلة عند العلويين عن نظامهم الذي يتصرف بهم وعنهم وباسمهم، كذلك لم تكن المارونية تعبيراً عن إرادة المسيحيين الموارنة الحرة في لبنان، وفي الحقيقة ليس هناك أي إرادة مستقلة لأي طائفة أو فئة من الشعب، طالما أن الدولة ليست دولة/ أمة، وليست حيادية تجاه مكوناتها الأهلية، وطالما النظام ليس نظاماً ديموقراطياً منتخباً، والدستور ليس دستوراً مدنياً يفصل الدين والمذاهب عن السياسة والسيادة. لا إرادة سياسية حرة إلا عندما تتكون الدولة من مجتمع سياسي مفصول عن المجتمع المدني والمجتمع الأهلي، وليس طوائف ومذاهب وأكثريات وأقليات مُسيَّسة، ومرفوعة إلى حيز السياسة.
من الصحيح أن الكلام عن نظام طائفي هو كلام عن نظام وليس عن طائفة كما أشار ياسين الحاج صالح، ولكن النظام لا يتعين في الفراغ المجرد، بل في الواقع الاجتماعي السياسي للطوائف، ولكن يبقى من المهم دائماً وأبداً التركيز على المسائل التالية في الموضوع الطائفي: أولاً إن الطائفية مسألة سياسية ترتبط بالسلطة والثروة والنفوذ، وليست مسألة دينية ترتبط بالتفاضل بين المذاهب والديانات، ثانياً، الطوائف أدوات سياسية بيد النظام الطائفي وليست غايات بحد ذاتها، فليس هناك نظام طائفي خيره عميم لمنبته الطائفي أو للطوائف الأخرى، فما بالك بالخير العام للبلد. وثالثاً، النظام الطائفي ليس نظام طائفة، أقلية كانت أم أكثرية، بل نظام أقلّوي تحكمه القلّة، وتعود فوائده للقلّة من الناس، المرتبطة ارتباطاً عضوياً أو عصبوياً أو مصلحياً بأصحاب السلطة.
المصدر : الحياة