في وقت مبكر من أغسطس من هذا العام، تمت دعوتي لإلقاء ندوة مصغرة حول “العدالة الاجتماعية والفقر” في جامعة سلجوق في قونية – تركيا، وكان الزملاء من هذه الجامعة وغيرها من الجامعات التركية قد نظموا هذه الندوة، وطلبوا مني إلقاء محاضرتي أمام مجموعة مؤلفة من حوالي 40 طالبًا من طلاب الدراسات العليا الذين حضروا إلى قونية من مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
اسم قونية يستحضر فورًا إلى ذهن أي مسلم في جميع أنحاء العالم الشخصية الإسلامية الصوفية العظيمة المتمثلة بمولانا جلال الدين الرومي (1207 – 1273)، والذي يشرّف مرقده وضريحه الشريف تلك المدينة القديمة، وكان شعره الصوفي مصدرًا دائمًا للعزاء والإلهام للأجيال المتعاقبة من أتباعه ومريديه والمعجبين به.
فابتداءً من ابتداعه للطريقة الصوفية المولوية، إلى النصوص العظيمة التي خطها في كتابه “المثنوي”، مرورًا بشعره الصوفي الغنائي وطقوسه التبجيلية التي يمارسها العديد من المسلمين اليوم في جميع أنحاء العالم، جميع ذلك وضع مولانا الرومي في مركز التقوى الإسلامية وفي مركز الشعر الإسلامي الصوفي على حد سواء.
في ظل مولانا الرومي
زرت قونية، وألقيت محاضراتي في حرم جامعة سلجوق، وعقدت العديد من الاجتماعات غير الرسمية مع الأصدقاء والزملاء الأتراك، وخلال زيارتي قمت بالعديد من الزيارات إلى ضريح مولانا جلال الدين الرومي، وتزامن كل ذلك مع الفترة التي بدأت فيها تركيا للتو عملياتها العسكرية في سورية والعراق ضد كل من داعش وحزب العمال الكردستاني.
كان السؤال البديهي الذي يلح في ذهني، وربما في أذهان الكثيرين ممن يقطنون تلك المدينة، يتمثل بالصلة، إن وجدت، ما بين حرمة وقداسة الزيارة الخلاصية لظل الرومي في مرقده الشريف، والحرب على الإرهاب التي تشارك بها البلد التي تستضيف جثمان الرومي.
ما هو دور الصوفيون في زمن الحرب الشاملة والإرهاب؟ وما نحن فاعلون عندما نقرأ، ونقدس، ونمارس أعمال التقوى على شرف القديس الصوفي المنحدر من العصور الغابرة، في الوقت الذي يلتهب فيه عصرنا ومنطقتنا بالحروب والثورات والشكوك؟
أي محاولة للإجابة على هذه الأسئلة يجب أن تبدأ من خلال استقصاء سيرة مولانا جلال الدين الرومي نفسه.
جلال الدين الرومي وعائلته، كانوا في الواقع لاجئي حرب، حيث فر مع عائلته من إرهاب عصره باحثًا عن ملاذ آمن في قونية، وهناك تحولت حياته الدنيوية إلى هدية دائمة للسلام والسكينة في العالم بأسره، وتمخضت عن أطروحته الشعرية الرائعة المتمثلة بالمثنوي.
اليوم في قونية، يمكننا أن نرى العديد من اللاجئين الجدد القادمين من العراق وسورية، ولا يزال البعض يأمل بالعودة إلى مسقط رأسه، من بغداد إلى حلب، مرددًا أمانيه أثناء طوافه حول ضريح جلال الدين الرومي.
العالم الداخلي والخارجي
خلافًا للاعتقاد السائد، الصوفيون، كجلال الدين الرومي، لم يتخلوا عن العالم الخارجي، الحقيقي والملموس، لصالح العالم الداخلي الروحي والمعنوي؛ فالصوفيون لم يتركوا العالم لخرابه بينما هم مشغولون بصقل وتلميع أرواحهم الداخلية، بل على العكس تمامًا من ذلك، بدأوا من نقطة الصفر لوجودهم، المتمثلة بالعالم الصغير وافترضوا أن الإنسان غير معصوم عن الخطأ، وأخذوا هذه الفكرة إلى نقطة الصفر في العالم الكبير، المتمثلة بوجودية الإنسان ضمن هذا العالم، والصلة المركزية والأساسية ما بين هذين العالمين كانت، ولا تزال، تتمثل بدور الخيال الأخلاقي الخلّاق، الخيال السلمي مقابل الخيال الحربي، والتناغم والاتساق مقابل الخيال المدمر.
من خلال العزلة الداخلية التي قادتهم لاكتشاف أناهم الخاصة والغرض الذي خلقهم الله ووضعهم لأجله ضمن هذا العالم، استطاع الصوفيون أن يرسموا للعالم صورة للتناغم والتناسق والوئام المستمر، فانطلاقًا من اضطراب وضجيج الإنسان الداخلي العاصف، وضجيج العالم بأسره، ومع القوة الكونية التي تحتضننا جميعًا، من هناك، يتصور الصوفيون بأن الخالق سبحانه وتعالى قد خلقنا لغرض مختلف.
الشعور باللامبالاة الفوضوية
نفس الصوفيين الداخلية أصبحت صورة تمثل العالم بأسره، فهم لم يبحثوا عن “الديمقراطية والحرية”، ولكن عن الوئام، الاتساق، التوازن، وتناغم إيقاعات العالم، الذي يُعزونه إلى التصميم الإلهي للخلق، حيث سعوا لتحقيق هذا التوازن في عالمهم الداخلي قبل أن يسقطوه ويطبقوه في العالم الخارجي.
ما نواجهه اليوم ليس مجرد عنف ناجم عن السياسة اليومية، بل إنه أيضًا شعور باللامبالاة الفوضوية والعبثية.
بالنسبة للصوفيين من أمثال جلال الدين الرومي، العالم الداخلي يعكس صورة العالم الخارجي، وهؤلاء لم يتخلوا عن العالم الخارجي، بل قاموا بتصغيره وضمه إلى عالمهم الداخلي، بحيث إن محاكماتهم للأمور وأخطائهم لا تنعكس بالضرر على غيرهم ممن يقطن في العالم الخارجي.
المشكلة في عالم اليوم لا تتمثل بالسياسة القاتلة التي نجاريها ونعيش ضمنها فحسب، بل إن المشكلة تكمن في حقيقة أن هؤلاء الذين يحكموننا يمثلون في الواقع، مرآة بالحجم الكامل لأسوء أنواع الشرور والوحشية المنسوجة والمتخفية ضمن رداء بشري ناعم.
الصوفيون المسلمون سيطروا على وحوشهم الداخلية، وسعوا لكبح جماحها أو لعلاجها، ومن هذا المنطلق، يعلمنا أسيادنا الصوفيون بأن “حرية التعبير” التي نتوق إليها ونناضل لاغتنامها، لا تعني شيئًا إذا لم نتعلم ونحن ننادي بها معنى “حرية الصمت”، كما أن “حرية التجمع السلمي” التي نسعى لها، لن توصلنا إلى مبتغانا إذا لم نسبقها بتعلم “حرية الاعتزال السلمية”.
إذن، تتمثل مهمتنا اليوم بالسماح للصوفية ولمبادئها السامية بأن تصبح خارطة طريق للعالم الذي كان المتصوفون يتصورنه، والذي نسينا كيف نقرأه.
المصدر : الجزيرة الإنكليزية ، ترجمة نون بوست