بدخول القوات الروسية الكثيف إلى الساحل السوري، دخلت القضية السورية مرحلة جديدة. لم يعد النقاش يدور، كما كان في المرحلة الأولى التي تم الاتفاق فيها على بيان “جنيف 1” حول الطريقة التي ينبغي على الأسد أن يتنحى فيها عن الحكم، ليتيح للسوريين الانتقال إلى نظام سياسي جديد، يلبي تطلعاتهم إلى الحرية التي ثار شبابهم من أجلها، ولا حول استبعاد الحل العسكري، وإعطاء الأسبقية للحل السياسي، كما حصل في المرحلة الثانية التي قادت إلى انعقاد مؤتمر مونترو ومفاوضات جنيف 2، على طريق دفع الأطراف إلى الانخراط في هذا الحل. إنه يدور، الآن، في هذه المرحلة الجديدة حول الطريقة التي ينبغي، أو يمكن فيها إعادة تأهيل الأسد، وفي أية شروط، ولأي فترة، وبأية صلاحيات.
يشكل هذا التحول في الموقف الدولي انقلاباً بمقدار 180 درجة عن نقطة البداية. فقد انطلق الجهد الدبلوماسي منذ عام 2011 من نقطة واضحة، هي إرضاء مطالب الشعب السوري الذي ثار على نظامٍ لا ينكر أحد من المسؤولين الدوليين طبيعته الدموية، وهو ما برهن عليه وأكده، بشكل أكبر، رد النظام وأجهزته على المسيرات السلمية بالسلاح الناري، منذ الأيام الأولى، قبل إدخال الأسلحة المتوسطة والثقيلة، وتالياً استخدام الأسلحة الكيمياوية. وعلى الرغم من التلفيق الدعائي المنقطع النظير للنظام، وجيوشه الإلكترونية وأجهزة إعلام حلفائه، ودفاع هؤلاء عنه، بكل الوسائل واتهاماتهم للشعب والمعارضة وتشويه سمعتهما. لم تعرف تلك المرحلة سوى الإدانات القاسية للنظام القائم على ضوء ما كانت تنشره، ولا تزال، المنظمات الحقوقية والإنسانية من تقارير ووثائق تثبت تورط النظام وأجهزته في جرائم وصفت، دائماً، بأنها ترقى إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية، ومنها جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية.
وكان من نتيجة ذلك تشكيل تجمع أصدقاء الشعب السوري من أكثر من مائة دولة، والتصويت على مجموعة مهمة من القرارات في مجلس الأمن والجمعية العامة، تؤكد جميعها تجريد الأسد ونظامه من الشرعية، والاعتراف بالمعارضة السورية ممثلة شرعية للشعب السوري.
وقد زاد، في هذه المرحلة، حماس الدول والمنظمة الدولية لفكرة الانتقال السياسي، وصدرت القرارات التي تؤكد حق السوريين في التغيير السياسي، واختيار ممثليهم بحرية، وإعادة بناء نظامهم السياسي على أسس ديمقراطية. وبعد أن تركّزت الجهود الدولية، في البداية، على تأكيد شرعية المطالب الشعبية السورية التي تبنتها غالبية الدول، بدأت الجهود تتركّز، بشكل أكبر، في المرحلة الثانية على إيجاد الوسائل والطريقة المثلى لتحقيق هذا الهدف.
من تطلعات الشعب السوري إلى الحرب على الإرهاب
لم يغيّر استخدام موسكو حق النقض في مجلس الأمن من هذا التوجه العالمي الشامل نحو إدانة النظام ورجالاته، ووضعهم جميعاً على قائمة العقوبات الدولية، ولا من الإجماع على شرعية
الانتقال السياسي في سورية، وضرورة تنحّي الأسد، ورحيل نظامه الدموي. كل ما نجح فيه هو وضع العراقيل أمام وصول الجهود الدولية إلى غايتها، وتحقيق ما كان العالم كله ينتظره من تغيير سياسي، ووقف لعمليات القتل المنظم والمدروس للمدنيين السوريين. وكان النظام وحلفاؤه لا يزالون على خط الدفاع، وتحت الهجوم السياسي والقانوني والأخلاقي والعسكري أيضاً، يكاد أكثرهم لا يتجرأ على الإعلان الصريح عن دعمه له. أما موسكو فلم تكن لتجد ذريعةً للتغطية على تورطها إلى جانب النظام، إلا في رفضها نموذج حرب التدخل العراقية والليبية، أي الخوف من الفوضى، وتأكيد تمسكها بالشرعية القانونية، وهي غير الشرعية السياسية المفقودة، ورفضها مبدأ التدخلات الدولية.
لكن، منذ انهيار محادثات جنيف 2، بتصميم مشترك روسي إيراني، شهد المناخ الدبلوماسي الدولي تحولاً مضطرداً في النظر إلى القضية السورية، بدأ من خلال القبول المتزايد، ولو على مضض، إنما بشكل أكثر إلحاحاً، وبمشاركة بعض دول تجمع أصدقاء الشعب السوري، بتسويق فكرة تقاسم السلطة بين النظام والمعارضة. وبينما كان ممثلو النظام لا يزالون مستمرين برفض الاعتراف بوجود معارضة أصلاً، واعتبار ما حصل من احتجاجات شعبية مؤامرةً دوليةً ضد نظام الحكم الممانع، حاول الروس، بإصرار، فرض تفسيرهم الخاص لقرار مجلس الأمن رقم 21118 الذي أراد أن ينقذ “جنيف 1” بتقديم آلية، كانت مفتقدة، لتطبيقه، هي البدء بتشكيل هيئة حاكمة انتقالية كاملة الصلاحيات، تتشكل بالتوافق بين أطراف من النظام والمعارضة، وتمثل نوعاً من انتقال مرحلي أول للسلطة، يضمن تنفيذ بنود اتفاق جنيف العديدة، بما فيها وقف إطلاق النار وتحديد شكل النظام المقبل، وترميم مؤسسات الدولة وإصلاحها، والقيام بأعمال الإغاثة، ثم إعادة الإعمار.
وسرعان ما استخدم الأسد وحلفاؤه التفسير الروسي لشكل الهيئة الانتقالية وصلاحياتها، من أجل تقويض فكرة المفاوضات نفسها، وكسب مزيد من الوقت، على أمل تحقيق الحسم العسكري، وتشتيت المعارضة. وهذا ما ساهمت به، أيضاً، موسكو والقاهرة وطهران، في رفضها جميعاً الاعتراف بتمثيلية “الائتلاف”، وتشويه سمعته، والعمل على تجاوزه، من خلال الدعوة إلى مؤتمرات وتجمعات بديلة، من جهة، والتركيز، من جهة أخرى، على تمدد القوى المتطرفة، وفي مقدمها داعش، بل تشجيعها على التقدم في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة، للوصول إلى ما كان الأسد وحلفاؤه يحلمون به دائماً، وهو وضع المجتمع الدولي أمام أحد خيارين لا ثالث لهما، التعامل مع نظام الأسد، مقدمة لإعادة تأهيله، أو القبول بسيطرة داعش وأخواتها.
خلال الأشهر الماضية، أحرزت هذه الاستراتيجية تقدماً كبيراً. فبدأت دول أوروبية كثيرة تتأثر ببعض الحجج والذرائع الروسية، وتظهر خوفاً متنامياً من تمدد الإرهاب على حساب التجاهل المتزايد لحقوق الشعب السوري ومصيره، ولم تعد تنظر إلى الأسد ونظامه من منظور انتهاكاته الخطيرة لحقوق الإنسان، وإنما من منظور ما يمكن أن يقدمه، بصرف النظر عن الجرائم التي ارتكبها بحق شعبه، في الحرب على الإرهاب. وفاقم من هذا التوجه عند بعضهم الفشل الذريع الذي منيت به الخطط الأميركية في هذا المجال، والخوف من الانهيار الوشيك لنظام الأسد، وتمكّن القوى الإسلامية المتطرفة، وغير المتطرفة، من السيطرة على العاصمة السورية.
رئيس أم ذريعة للتدخلات الأجنبية؟
في هذا السياق، يأتي التدخل الروسي العسكري على الأرض، ليستفيد من تخبط الاستراتيجية الغربية في المسألة السورية، ليسترد زمام المبادرة التي فقدها، ويفرض الأمر الواقع الذي لم يكن من الممكن حتى التفكير فيه في بداية الثورة، وتحقيق ما كان النظام يحلم به، منذ اليوم
الأول الذي قرر فيه استخدام أقصى درجات القوة والعنف، لقلب الوضع على المتظاهرين السلميين، ووأد الثورة في مهدها. ومن خلال مشاركته في تثبيت نظام الأسد، وإعادة فرضه على السوريين، بالقوة، يحلم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بقلب الطاولة على الدول الغربية، واستعادة المبادرة الدولية، أو على الصعيد الدولي، وإجبار الولايات المتحدة وأوروبا على التراجع عن العقوبات التي فرضتها عليه، والتنازل له في أوكرانيا وفي بقاع العالم الأخرى. إنقاذ الأسد، وتثبيت حكمه ونظامه، هو اليوم الورقة الرئيسية، “الجوكر”، الذي يحلم بوتين أن يتخلص، بفضلها، من أزمته، ويفرض روسيا على العالم قوة رئيسية، وقطباً عالمياً لا مجال لتجاوز إرادتها ومصالحها، ولا مهرب من التعامل معها نداً، وعدم القبول بأي إجراءات عقابية ضدها، مهما كانت سياستها، تماماً كما أن أحداً لا يتصور أن تعلن مجموعة من الدول العقوبات ضد الولايات المتحدة.
هذا يعني أن معركة نظام الأسد تحولت إلى معركة روسيا نفسها ضد الغرب، وهذا ما كانت موسكو تخطط له منذ البداية. فهي لم تر في سورية شيئاً آخر، لا شعباً ولا حقوقاً ولا قانوناً ولا نظاماً ولا أسد ولا فأراً. لم تر فيها إلا أنها نافذة فرص للانقضاض على الغرب وإجهاض استراتيجية في الهيمنة والتنطع للقيادة العالمية التي فرضها أو يريد أن يستمر في فرضها على العالم.
وهذا ما حصل من قبل مع إيران الخامنئية التي لم تر، أيضاً، في سورية التي مازالت أقدامها بفعل الثورة، وتفجر الصراع الداخلي، لا نظاماً بعثياً ولا شيعة ولا سنة ولا شعباً ولا حقاً، ولا من باب أولى ممانعة أو مواجهة لإسرائيل. رأت في سورية فرصةً لا تقدّر بثمن للتوسع الإقليمي واستعراض القوة والنفوذ ما كانت تحلم به في أي وقت. فكان خيارها في دعم الأسد، وتثبيت حكمه، ومده بكل وسائل القوة وسيلتها المنزلة من السماء للضغط على الغرب، ونيل ما تريده منه، من فك الحصار ورفع العقوبات وتوقيع الاتفاق النووي، والاعتراف بها قوة إقليمية رئيسية.
لم يأت الروس لشن الحرب على داعش والمنظمات الإرهابية، وإنما لحجز مقاعدهم في أي تسوية محتملة مقبلة، وليست الحرب ضد الإرهاب إلا ذريعة يستخدمونها، كما استخدمها من قبلهم الإيرانيون، وعملوا على تسهيل تمددها، ليدفعوا العراقيين والسوريين، وفي ما وراءهم المجتمع الدولي، إلى التساهل مع مشروعهم للهيمنة الإقليمية، وتبرير وضع يدهم على نظام الأسد، ومن ورائه على القرار السوري وسورية نفسها، بل إلى دفع المجتمع الدولي إلى توسل دعمهم وتعاونهم بعد قطيعة دامت عقوداً.
وهذا ما فعله نظام الأسد نفسه من قبل، عندما أطلق سراح معتقلي المنظمات المتطرفة القاعدية،
وغير القاعدية، ليستخدم هذا التطرف بالذات فزّاعة في وجه المجتمع السوري والمجتمع الدولي معاً، ويبتز به الجميع، لتبرير رفض أي تنازلات، وبالتالي، أي مفاوضات، وتثبيت الوكالة الحصرية التي أعطيت لأبيه في حكم سورية والاستفراد بملكيتها.
هكذا، نعيش اليوم ربما أشنع لحظة في تاريخ القضية السورية، حيث أدت المناورات والتناقضات والخيانات وأعمال الغدر، هنا وهناك، إلى أن ينقلب الوضع السياسي والدبلوماسي رأساً على عقب، فيصبح الحفاظ على نظام الأسد وتمكينه، عسكرياً وسياسياً، بذريعة الوقوف في وجه تمدد الإرهاب، الذي أطلق هو نفسه شياطينه، غاية المساعي الدولية من إنهاء النزاع في سورية، وليس إنقاذ الشعب السوري من محنته الدموية، وتلبية تطلعات السوريين، وتطمينهم على مصيرهم وحقوقهم، سواء جاء هذا التمكين بالحسم العسكري، أم بالمفاوضات، لقاء ثمن بخس، هو تشكيل حكومة “وحدة وطنية”، أي تطعيم حكومة الأسد القديمة بمزيد من شخصيات المعارضة الانتهازية والوصولية.
وهكذا، أصبح مصير الشعب السوري قضية إنسانية، تتعلق بإغاثة اللاجئين واستقبالهم، بينما أصبح تأهيل نظام الأسد المنهار البند الأول في أعظم قمة دولية سياسية، تعقد لمناقشة الشؤون العالمية.
لن يكون مصير التدخل الروسي أفضل من مصير التدخل الإيراني الذي سبقه. لكن، إذا قيّض لهذا المشروع الروسي الإيراني السوري أن ينجح، وتتحول جلسة الجمعية العامة إلى جلسة مناقشة في مصير الأسد، وإنقاذ نظامه، بدل الإجماع على دفع ملفه إلى محكمة الجنايات الدولية، كأكبر قاتل في هذا العصر، سيعني ذلك، بصرف النظر عن الأسباب ومسؤوليات المعارضة السورية وأداء الدول الحليفة والصديقة وأخطائها وحيثياتها، أنه لم يعد هناك فارق كبير في الحياة الدولية بين السياسة والجريمة المنظمة، وأن إدارة الدولة والنظام الدولي لم تعد تختلف كثيراً في عصرنا عن إدارة المافيا أعمالها ومصالحها الإجرامية. هذا هو العالم الذي تريد روسيا البوتينية أن تقودنا إليه.
المصدر : العربي الجديد