ساءني لما بلغني أنكم، بعد قتلي بصمتكم، جيرتم جثتي لتحقيق أهداف سياسية وزمرة مصالح ميكافيلية لا تعالج الواقع، ولا تكفل إنقاذ ما تبقى من الطفولة في بلدي! أنا الطفل السوري إيلان، من اغتسل في البحر من نجاسة هذا الواقع السياسي، ومن ثم أدار لحكام الدول ظهره ورفع حذاءه معترضاً بدون أدنى مراعاة لأيّ مراسم بروتوكولية.
أولاند، عذرا لعدم استخدامي الألقاب، فأنا مازلت صغيرا ولم أتعلم ولا أجيد لغة الدبلوماسية والعلاقات الدولية، لكن أعتقد أن الجهل الدبلوماسي في هذا المقام، أكثر إفادة من العلم فيه، لأنّه يساعدني في كسر القيود الدبلوماسية التي أعاقت الكثير من أبناء وطني في مخاطبة الرؤساء، فلا أبالغ إن قلت، إن القضية السورية هي الأعدل في العصر الحالي، لكنه وللأسف، أسوأ المحامين أولئك من تولى الدفاع عنها.
لا أخفيك يا أولاند، أن خطابك الأخير بشأني لم يسرّني، بل على العكس سبب امتعاضي وأشعرني بالذنب حتى بعد موتي، فقد ضيقت واسعا، كيف طاوعتكم إنسايتكم بالمتاجرة بمأساتي، فقط من أجل إجراء عمليات تجميلية لوجوهكم الملوثة بدمائي ودماء غيري ممن قضى بالكيماوي. كيف طاوعتكم قلوبكم باختصار مأساتي بضرورة استقبال اللاجئين ومحاربة تنظيم «داعش» الإرهابي فحسب، وبدون أدنى إشارة بضرورة القضاء على نظام الأسد، الذي تعلم عين اليقين، بأنّه السبب الأساسي في هجري لألعابي ودراجتي وأصدقائي في حارتي المتواضعة بدمشق، التي مازالت تحت حكم بشار الأسد. فأنت تعلم، بأنه الوكيل الحصري لإنتاج وتصدير التطرف والإرهاب، الذي أغرق به كافة أرجاء المعمورة كما أغرقني.
يؤسفني أنك لم تقرأ جثتي على تراب تركيا بحيادية، وبعيدا عن أي متغيرات سياسية أخرى، من المحزن ألا تروني كإنسان، بل فقط وسيلة أو سلعة أو حدث جذاب، يستخدم في تسويق أجندات سياسية، تكرس التهجير وتكتفي بإدارة الصراع وغير كفيلة بإنقاذ الإنسان السوري، أو تحقيق مطالبه في الحرية والديمقراطية.
عذرا أولاند، لم أهمّ للمجيء لبلادكم لأني مغرم فيها، لكني هاجرت إليكم، وتركت أحب بقاع الأرض إليّ، فقط لأوصل لكم رسالة آلاف أطفال دمشق والغوطة، التي لوث الأسد وجه براءتها بالكيماوي والدماء.
في كلّ مدن العالم، يخيفون الأطفال بالأشباح، لكنه في بلدي فقط، أصبحوا يخيفونهم بالشرطة والحكومة. أتيتكم من سوريا حمزة الخطيب، سوريا الضحيّة، سوريا التي عجزت عن انصافها كلّ دساتير العالم ومواثيق حقوق الإنسان. بلدي التي محى الطغاة من أزقته ملامح الطفولة، ويتّم حدائقها، ليجعلها جرداء خالية من الياسمين، محولا الأرجوحة فيها لمشنقة تجندلت عليها براءة الأطفال.
قفوا فإنّكم مسؤولون، مصداقيتكم على المحك الإنساني، والتاريخ يكتب، ولن يرحم أحدا قط. لم نأتكم من أجل المساعدات وتشكيل أعباء أخرى تؤثر على الواقع المعيشي لأخوتنا في أوروبا. لم نأتِ طمعا بحضارتكم، كيف يكون، ونحن أبناء أقدس وأقدم مدينة في العالم، نحن أبناء سورية والشام، دعوة النبي محمد ومهد السيد المسيح الأول. نعم تركت أصدقائي الأطفال في السواحل التركية، يبحثون مع آبائهم عن قارب موت يوصلهم لشطآن الحياة، لمكان آمنٍ يلعبون فيه بالأرجوحة أو يأكلون به بعض أصابع الشوكولاتة كباقي أطفال العالم. محاولتي المجيء إليكم، هدفها فقط، الهروب من قذائف الأسد واعتقالاته المتعسفة، ومصادرته لكلمة الشعوب وعدم الإيمان بأنها بلغت سنّ الرشد، وأمست قادرة على اختيار ما تريد. هاجرت إليكم، من أجل أن أقول لكم: أنا لا أريد المجيء إليكم، لا أريد ترك وطـــني، دراجتي، ألعابي، أقسم أنّ حضارتكم لا تعنيني، مع تقديري الشديد لشعوبكم، لكن أتيت لأسألكم، أحقاً ليس باستطاعتكم وضع حدٍ لذلك الذي سرق البسمة من وجه الملايين من السوريين.
ليس هذا فحسب، بل وأعلن وطني سلعة رخيصة لإرهـــاب شــذاذ الإنسانية، فعرض بلدي بالمزاد العلني في خطابه الأخير عندما قال: «سورية لمن يدافع عنها بغض النظر عن جواز سفره»!. صدقني أولاند، لو كنت أستطيع حمل السلاح لما وافقت أبي على المجيء إليكم، ولكن ساعدي الضعيف وأناملي الصغيرة لا تقوى على حمل البندقية أو الضغط على الزناد، وكذلك جسدي النحيل لا يقوى على مواجهة العصابات الإرهابية التي يستوردها الأسد من إيران والأفغان والعراق تحت شعار سورية لمن يدافع عنها بغض النظر عن جنسيته، عزيزي أولاند، لا أريد أن أكون إرهابيا، فلا تدفعني لذلك.
غير أنّه لا يفوتني، أن أشكر الشعب الأوروبي الإنسان، من تجمهر في ساحات مدنه من أجلي وحدادا على الجريمة التي مارسها التقاعس الدولي بحقي، لكني أجد أنّه من الأمانة والوفاء بمكان، وبعد بلوغي مراكز الشهرة التي ربما تضاهي نجوم هوليوود، أن أوضح لكم، بأنّي لست الوحيد، فهناك آلاف المعتقلين من الأطفال، يحتجزهم نظام الأسد في أقبيته وسجونه، بل ويجند العديد منهم في صفوف الإرهاب والعسكرة.
لا أخفيك أولاند، أنّ تجمهر شعوبكم، يدلّ على إنسانيتهم، لكنّه أيضا يكشف خبايا الأمور، ويفضح مكر السياسيين بالتلاعب في خيوط الرأي العام، فحادثتي التي تلقفتها الوكالات الكبرى ووسائل إعلامكم، تبيّن أن دافعها ليس إنسانيا، حيث تم تسييس غرقي، فقط من أجل تجميل الوجه الإنساني لكم، وشرعنة القتل المستقبلي لنا، وتشجيع عمليات التهجير والتغيير الديمغرافي في سورية لصالح بشار الأسد والأجندات الإيرانية.
إضافة لتجنيد الرأي العام ضد تنظيم «داعش» الإرهابي، حسبما اتضح في خطابكم الأخير وتصريحات وزير الخارجية الاسترالي وغيره، ممن عزا السبب الأساسي في تهجير السوريين لأوروبا إلى تنظيم «داعش» بدون الإشارة لفظائع نظام الأسد وميليشياته الطائفية، علما بأنك على علم تام، بأنّهم المسؤول الأساسي عن كلّ الخراب الذي أصاب الإنسانية في منطقة المشرق العربي وسورية على وجه الخصوص. ما سبق يبرهن ويدل على أنكم تستغلون مصائب الإنسانية للتلاعب في العقول وتوجيه الرأي العام الأوروبي والعالمي، حسب مصالح سياسية، ومن يدري، ربما يكون تجاهلكم لجرائم الأسد والحرص على إبقائه في الحكم، جزءا أساسيا من مصالحكم السياسية وخطة إدارة الصراع بين الأطراف في الوطن العربي.
ما شهدته أوروبا من حراك شعبي، تنديدا بالجريمة السياسية التي ارتكبت بحق الإنسان، خاصّة بحقّي كطفل سوري، يدل على أنّ شعوبكم مازالت حيّة، ويفضح تلاعبكم بعقولهم من خلال السيطرة على المراكز الإعلامية التي تشكل البوابة الأساسية لإدخال المعلومة في عقل المتلقي الأوروبي، التي تشكل بدورها الوقود الأساسي للسلوك المحتمل لدى المتلقي (المواطن الأوروبي).
فلو أنكم منحتم للحقيقة السورية تأشيرة دخول للوكالات الكبرى ومراكز الإعلام عندكم منذ بداية الكارثة الإنسانية التي تعيشها سورية، كما منحتم لقضيتي اليوم، لرأينا تقلبا ملحوظاً وسريعا في مفردات الرأي العام الأوروبي، القادر على توجيه أشرعة الساسة في بلاده.
عذرا يا قادة أوروبا… من العيب تنصيب السياسة والمصالح، حارساً فكرياً على بوابة المعلومات المسؤولة عن صناعة السلوك الإنساني. وإن اتخاذكم مثل هذه الأساليب، يدلّ على أنكم تخافون من إنسانية وعفوية شعوبكم التي من الممكن أن تؤثر على مصالحكم السياسية في المشرق العربي. باختصار عزيزي أولاند، فلتسقط السياسة والإرهاب في حرم الإنسان.
المصدر : القدس العربي