يستمر نزيف الهجرة الداخلي والخارجي في سورية منذ خمس سنوات، حتى لتكاد تتحول البلد إلى بلد مهجرين بالكامل، فهناك مدن كانت عامرة وواعدة، تحولت إلى خراب على مستوى كل الخريطة السورية. لا نجانب الصواب إذا قلنا إن سكان سورية، اليوم، هم بين لاجئين ومستضيفين لاجئين سوريين من مناطق أخرى.
يقدر عدد النازحين داخلاً وخارجاً بما يقارب 11 مليون سوري (7 ملايين داخلياً، وأكثر من أربعة ملايين في الخارج)، وهو رقم مرشح للزيادة مع استمرار آلة النظام العسكرية في سحق البلد. العدد مؤشر على هول الكارثة التي تعيشها سورية، ولا شك أن وراء كل نزوح فردي حكاية حزينة ومؤلمة، وإذا اعتبرنا أن مئات الآلاف قد نزحوا مراتٍ، وإلى أكثر من بلد، فلنا أن نتصور الجحيم المذهل لدرب الآلام السوري الذي لا تبدو له نهاية.
لم يكتفِ النظام السوري باستخدام أدوات القمع الوحشية لردع المنتفضين عليه، فكلما أدرك أنهم أكثر إصراراً على ثورتهم عليه، كان يزيد من وتيرة قمعه، وعندما وجد ذلك لا يكفي، اعتمد سياسة اقتلاع البيئة الحاضنة للاحتجاجات، وليس قمعها فقط.
هذه السياسة هي التي ولدت نوعين من وسائل القمع لم تكن معروفة في العام الأول للاحتجاجات. الأول، اعتماد المناطق المعارضة مكاناً لممارسة سياسة الأرض المحروقة، وبالتالي الاستخدام المكثف للبراميل المتفجرة على نطاق واسع وبشكل عشوائي، وقبلها السلاح الكيمياوي. الثاني، سياسة الحصار التجويعي، ذلك الحصار الذي يمنع عن المناطق المحاصرة كل وسائل الحياة، الطعام، المياه، والكهرباء والاتصالات الهاتفية، أي العمل على هدم كل وسائل الحياة في المناطق التي اعتبرت معادية، وهي كثيرة جداً بالنسبة للنظام.
عمل النظام على تفكيك النسيج الاجتماعي السوري خلال نصف قرن من حكمه البلد، ليتمكن من الإمساك برقبة المجتمع، والسيطرة على أيّ معارضة قد تظهر فيه. وعندما ظهرت الاحتجاجات القوية ضد النظام، ولم يتمكن من ردعها، اعتمد سياسة التجريف الديمغرافي، أو سياسات الطرد، عبر سياسة الأرض المحروقة. وهي سياسة دافع عنها رأس النظام، نافياً عن السوريين صفة المواطنة، طالما أنهم لا يريدون أن يدافعوا عن النظام الذي يماهي بين نفسه وبين “الوطن” على أساس أن النظام ورأسه هما الوطن.
وقال الأسد الابن علناً “الشعب الذي لا يدافع عن وطنه ليس له وطن، ولا يستحق أن يكون له وطن”، وقال إن “سورية لمن يدافع عنها أياً كانت جنسيته”. وبهذا الإسقاط لحق الشعوب في بلدانها، وتوزيع الوطن السوري على آخرين، وباعتبار الوطن مزرعته الشخصية، تصبح آليات العمل التي يعتمدها النظام في قمع شعبه آليات قمع ذات طبيعة احتلالية اقتلاعية. ليس فقط بدلالة سياسة الأرض المحروقة فحسب، بل وبدلالة الوظيفة الديموغرافية والعسكرية للتهجير الجماعي أيضاً.
كان النظام يدرك ما تتسبب به هذه الآلية القمعية وفعاليتها في صناعة الموت والخوف بين السوريين “الذين لا يستحقون وطنهم”، حسب وصف رئيسهم لهم. بل وهي ناتجة عن عقل استعلائي ينظر إلى محكوميه، بوصفهم حشراتٍ تستحق السحق، لأنها لا تذعن.
أوجد النظام السوري بنية اجتماعية هشة، بفعل سياسات الإفقار المتسارع الذي تعرضت له سورية في العقود الثلاثة التي حكمت فيها عائلة الأسد. وهذه البنية لم تكن قادرة على امتصاص أي صدمات، بفعل هذه الهشاشة. ولأنه كان يدرك مفاعيل سياسته، فهو يعرف مدى التأثير التدميري للسياسات التجريفية، خصوصاً وأن “البروفا” التي اعتمدها في مدينة حماة في عام 1982 كانت ناجحة في إخماد انتفاضة المدينة، التي دمرت. ما فعله الأسد الابن أنه عمم “بروفا” أبيه التجريفية في حماة على كل البلد، بوصفها السياسة الأكثر نجاحاً في قمع تمرد شعبي.
لقد أظهر الحراك السوري في بداياته أجمل ما في السوريين من آليات تضامن، على الرغم من القتل والقمع الذي تعرض لهما. لكن الصراع المديد أخذ يحول المتضامنين مع المتضررين من قمع السلطة إلى محتاجين لمن يتضامن معهم. واليوم، عندما تقول الأمم المتحدة، إن أكثر من نصف السكان في سورية باتوا يحتاجون إلى مساعدة ماسة، حتى يستطيعوا إكمال حياتهم، نستطيع أن نتصور حجم الإفقار الجماعي الذي ضرب ملايين السوريين في سنوات الثورة السورية. ولم يقف الوضع على الإفقار فحسب، بل تعداه إلى تهديم ملايين المنازل كلياً أو جزئياً، ما حولها إلى أماكن غير صالحة للسكن.
جعل النزوح المهول البيوت المسكونة في سورية مكدسة بالبشر، وليس من الغريب أن تجد مكاناً لا تتجاوز مساحته أربعين متراً، ينام فيه أكثر من أربعين شخصاً، أي أن كل فرد له أقل من متر مربع، ما يجعله غير كافٍ لنومهم، يضطر سكانه إلى النوم فيه ورديات متتالية. كما أن هذا التكدس ولّد بين سكانه خلافات عميقة، بعد أن كانوا ينسجون مع بعضهم علاقات حميمة قوية سابقاً. حتى أن أقارب كثيرين من عائلات سورية محافظة، اضطرت أن ينام الشباب من الذكور والإناث من الأقارب في غرفة واحدة، ولم يكن هذا ممكناً في السابق، حتى لم يكونوا يستطيعون الاجتماع في غرفة واحدة، لا النوم فيها.
يُدفن حلم التغيير تحت ثقل آلام البشر التي تتوالد مآسي لا تنتهي، لا أمان، اليوم، للسوريين في كل الأماكن. باتت سورية أماكن نفوذ عصابات النظام، وأمراء حربٍ ولدوا في ظل أتون الصراع، ومتطرفين إسلاميين يعتقدون أنهم يقيمون شرع الله على جثث الآخرين، ولو على جثة امرأة بائسة، يتهمونها بالزنى. فاشية أخرى تتغذّى من فاشيّة النظام وتغذيه، ويتعايشان مع بعضهما بعضاً في سرقة حلم التغيير السوري.
الجميع جعل المكان السوري جحيماً لا يمكن العيش فيه، ما جعل السوريين يدخلون في طريق النزوح، وهو طريق قد يذهب بهم بعيداً، معتقدين أنهم في يوم سيعودون إلى منازلهم، لكن الطريق ستأخذهم بعيداً، يرتبون حياتهم في أرضٍ ما، غريبة عنهم، نعم، ستُنمي الحنين الحزين، وستجعل من المنازل التي بنوها بالعرق والدموع، وهجروها بسبب الدم والقتل والدمار، ذكرى زمن جميل، لم يكن جميلاً فعلاً، بقدر ما كان جميلاً، لبشاعة الزمن الذي جاء بعده ورداءته وهوله.
المصدر : العربي الجديد