انقسم السوريون إزاء إسقاط الطائرة القاذفة الروسية، ولكن ما يجمع الطرفين هو التفاؤل من هذا التطور، فالموالون أملوا بأن يتخذ بوتين موقفاً صارماً، ويقصف تركيا، ويدمروها مما يجعلها تتوقف عن دعم من يسمونهم الخونة، ويتوقف معها الداعمان العربيان الأساسيان للمعارضة السورية وهما السعودية وقطر، أم المعارضون فقد أملوا بأن يقف حلف شمال الأطلسي مع تركيا العضو في هذا الحلف، وإيقاف بوتين عند حده مما يجعله يتخلى عن الأسد.
لقد كانت الطائرات السورية ومن قبل التدخل الروسي تدخل الأجواء التركية في عمليات التفاف لتقصف منطقة شمال غرب سورية بشكل متكرر، ولم تعترضها الطائرات أو الدفاعات الجوية التركية، وحدث أن سقطت صواريخ في الأراضي التركية، ولم ترد، وقبل شهر عندما أسقطت تركيا طائرة مسيّرة اخترقت أجواءها أنكر النظامين الروسي والسوري أن تكون تلك الطائرة لهما، واعتبر رئيس حزب الشعب الجمهوري (التركي) مريد الإمام الفقيه أن النظامين السوري والروسي صادقين، وقال ساخراً من تصريحات الحكومة التركية: “لعلنا أسقطنا طائرة لنا!” وهتف مريدو الإمام الفقيه من الشيوعيين في تركيا عموماً: “الصور مفبركة”.
هناك متغيرات تركية داخلية فرضت على الحكومة التركية سلوكاً مختلفاً هذه المرة. فقد أصبح حزب العدالة والتنمية أكثر يمينية بتصويت القوميين الطورانيين له في الانتخابات الأخيرة، وأصبح نائب رئيس الحكومة التي شكلها حزب العدالة والتنمية هو ابن مؤسس حزب الحركة القومية طُغرول توركش المنشق عن حزبه، والمنتسب إلى العدالة والتنمية. لقد كان التيار القومي في تركيا سلبياً إزاء التطورات الجارية في سورية، وهذا موقف يعتبر مختلفاً عن المعارضة الكردية أو المعارضة المؤتمرة بأمر الإمام الفقيه التي تصف نفسها: “حارسة العلمانية”، ولكن الأيام الأخيرة ومع تركيز الروس على قصف المناطق التركمانية شمال اللاذقية انطلقت مظاهرات في أغلب المدن التركية نظمتها الأحزاب والمنظمات القومية تطالب الحكومة التركية بعدم السكوت على قصف أشقائهم.
وكان الرئيس التركي –بحسب تصريحاته- قد بذل جهداً مع بوتين لثنيه عن هذه العمليات العسكرية التي تطال المدنيين والمدارس، وطلب منه التركيز على داعش، فانتقل بوتين إلى الهجوم المعاكس، وأصر على أنه يقصف داعش، واتهم الحكومة التركية بشراء نفط داعش، وعرض صورة أقمار صناعية لقافلة من عشرات الصهاريج مدعياً أن هذه الصهاريج متجهة إلى تركيا.
والطريف بالأمر أن مركز بيع النفط ومشتقاته في سورية معروف حتى للأطفال هناك، وهو مساحة أرض فسيحة لا يوجد فيها عشرات الصهاريج فقط كما عرض بوتين، بل آلاف، ومن القياسات كلها، ولو طلب صوراً “لبازار” النفط فأنا على استعداد لأن أجلب له صوراً أجمل وأوضح وأدق، وتظهر عليها الكتابات الطريفة التي تكتب عادة على السيارات السورية مثل “لا تلحقني مخطوبة”، و”عين الحسود فيها عود”، وبالمناسبة فإن “بازار النفط” وفي منطقة هي أكثر المناطق أمناً في سورية حتى الآن، مثله مثل مقر الخلافة في الرقة الذي لم تسقط عليه ولو بالخطأ شظية واحدة إلى أن تدخلت قوات التحالف الدولي. كأن هناك اتفاق غير معلن بين أطراف الصراع كلها على اعتبار منطقة بازار النفط محايدة، يأتي إليها النفط ومشتقاته، والتجار الذين ينتمون إلى ما فوق السياسة والانتماء السياسي، ويشترون، ويشحنون بكل الاتجاهات.
بدا بوتين في مؤتمر قمة العشرين في أنطاليا زعيماً لعالم أحادي القطب مثل بوش أيام غزو العراق، فهو يكذب، ويعرف أنه يكذب، ويعرف أن الآخرين يعرفون أنه يكذب، ويُصر على كذبه، وزاد بالقول بأن من يريد محاربة الإرهاب فعليه أن يراجعه هو، فهو الوكيل الحصري “لمكافحة الإرهاب”، وهو في الحقيقة ينفذ استراتيجية أعمدة النظام السوري الموروثة من الصهاينة حين كانوا يقولون في بداية الاحتجاجات: “سنقتل حتى أطفالهم، لأن هؤلاء الأطفال سيثورون ضدنا بعد عشرين سنة!” فقتل الأطفال، ووصمهم بوصمة إرهابيين هي سياسة مدروسة، ومقصودة.
صدّق أنصار النظام السوري أن بوتين زعيم العالم أحادي القطب، وخاصة بعد التصريحات النارية التي أعقبت إسقاط الطائرة، وبدأوا يصرخون: “اغضب يا بوتين!” على الطرف الآخر فرح المعارضون السوريون وخاصة المكلومون بطائرات الموت بإسقاط الطائرة الروسية، وباتوا يحسبون بأن الطائرات الروسية لن تقترب من الحدود التركية، وأن تطورات جديدة، وقواعد اشتباك جديدة ستفرض نفسها في المنطقة، وأن بوتين بعد أن تمرغ أنفه بالوحل، سيتراجع عن موقفه.
ستستمر الحرب طويلاً على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، ولكن العلاقات الروسية التركية أعقد من أن تخربها طائرة أو طائرتين، فهناك حجم تبادل تجاري بلغ ثمانية وعشرين مليار يورو بين البلدين اللذين يحتاج كل منهما إلى الآخر. ولنتذكر أن وضعهما لا يختلف كثيراً عن الوضع بين تركيا وإيران التي تحارب منذ اليوم الأول الشعب السوري الذي تدعمه تركيا بقوة، فالعلاقات الاقتصادية التركية الإيرانية تجعل كل بلد بحاجة للآخر، ومحاولات إيران المتكررة التدخل بالشؤون التركية، والهجوم الإعلامي العنيف عليها عبر وسائل إعلامها لم تخرب العلاقات حتى هذه اللحظة.
مهما صرخ مريدو الإمام الفقيه “اغضب يا بوتين” فليس من المتوقع أن يدمر بوتين اقتصاد بلده “كرمى عينين” الإمام الفقيه أو الأسد، وليس من المتوقع أن يتجاوز غضبه الصراخ ليرضي أنصاره، مثلما أرضت الحكومة التركية أو سحبت البساط من تحت مؤيديها من التيار القومي، فقد امتصت غضبهم بإسقاط الطائرة، لعلنا نشهد قريباً “حفل تبويس شوارب” وصلح بين الطرفين..
المصدر : الجزيرة مباشر